الجمعة، 19 ديسمبر 2014

مثاني في القرآن الكريم , د. عبدالسلام الكبسي


 

المثاني

طريقة بناء الجملة القرآنية , واختلافها عن الشعر والنثر معاً :

" الترقيم " الحاصل في القرآن فهو من وضع البشر , وبُنيت على ذلك الترقيم ثقافة متراكمة من الأحاديث الموضوعة , ومن يتأمل في المخطوطات القديمة للقرآن الكريم لن يجد الترقيم , فالآيات تلتئم مع بعضها جمعاً , في انسجام تام

 

 

 

" 1 "

يقال في الشعر بخصوص البيت الشعري الواحد أن ينقسم إلى شطرين , الشطر الأول يسمى " صدر " , والثاني " عجز " , وأما النثر فهو سرد كله , لا يقف المتكلم حتى تكتمل الجملة , ويقال لها " جملة تامة " أو بالمفهوم النقدي العالمي المعاصر " متتالية " , ويختلف القرآن ببساطة عن الشعر والنثر في طريقة البناء , كنسق في سياق أساليب القول عند العرب , فلا هو بالشعر ولا هو بالنثر . ذلك ما فطن إليه العرب لحظة نزوله , فقد اختلط عليهم الأمر بقولهم مرة , على النبي في إشارة للقرآن أنه شاعر , ومرة يقولون أن كاهن : " ويقولون أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون " , " بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ " , لتقاطع القرآن مع الشعر في " المجاز " , والقرآن مع النثر في " السجع " على غرار ما كان حاصلاً ونادراً مع الكهان , لكنه ليس كذلك , ف" فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ " , " وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ " , " وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ  وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ "

فما هو إذن ؟ أطلق الله عليه تسميةً , بالقرآن كجنس مختلف عن النثر والشعر ,بقوله في مواضع كثيرة : " إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " , ثم وصف طريقة بنائه بأنه " مثاني " , بقوله تعالى : " اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ  " , فما معنى مثاني في اللغة ؟ وكيف نستدل عليها بعيدأ عن نظرية الأقدمين ؟من واقع القرآن الكريم نفسه !

 

" 2 "

بالعودة إلى معجم المعاني الجامع , نقرأ في باب ثنى : "  ثنَّى / ثنَّى بـ يثنِّي ، ثَنِّ ، تثنيةً ، فهو  مُثَنٍّ  ، والمفعول مُثنًّى . ثنَّى الشَّيءَ جعله اثنين :- ثنَّى مبلغًا ثنَّى العددَ : ضعَّفه . ثنَّى الكلمةَ : ( النحو والصرف ) ألحق بها علامة التثنية .  ثنَّى بالأمر : جاء به بعد شيء قبله :- بدأ بحمد الله تعالى ثم ثنَّى بالصلاة على الرسول(ص) " .

 

وعليه , فإن الجملة القرآنية من حيث البناء ,عبارة عن صدرفي الشعر, أي بداية ( أو عبر عنه ب: ثنَّى بالأمر : جاء به بعد شيء قبله ) , ومثنى ( مفرد مثاني : مَثنَى: ( اسم ) .الجمع : مثانٍ 

 مَثْنَى  : ثُناءَ ، اثنين اثنين ، معدول عن اثنين اثنين بالتكرار ، يستوي فيها المذكر والمؤنث ، وهي ممنوعة من الصرف { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ  مَثْنَى  وَفُرَادَى } مَثْنَى  أَوْتَارِ العُودِ : مَا بَعْدَ الأَوَّلِ) أو ما عبر به بال" عَجُز" كلغة واصفة,  في الشعر. ويقال في اللهجة اليمنية ( لسان حمير ) عند بناء البيت : واجهة ومثنى , والمثنى يثبت من قوة الواجهة ليكتمل " المدماك " .

" 3 "

لذلك, نقول أن " الصدر"  في مجمل الآية من قوله تعالى على سبيل المثال في قوله تعالى :" فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" , قوله تعالى : " فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ " , وأن المثنى في الآية نفسها قوله تعالى : " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ " , صدق الله العظيم .

وفي المثال الثاني تتجلى نظريتنا على نحو غير مسبوق , فالصدر, أو الواجهة , أو البداية قوله تعالى : " إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ " , وأما المثنى فقوله تعالى : " أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) " , من مجمل الآية القرآنية نفسها , التي تأتي كما هي عليه , بالشكل الآتي في قوله تعالى :

 

إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) , صدق الله العظيم .

 

الخلاصة :

من هنا , نفهم سر التحدي في القرآن كمعجزة , ونفهم ما المقصد من قوله تعالى : " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)" , فالبناء مختلف عن الماضي , وإزاء السائد على نحو القطيعة , من جهة أولى , ومن جهة ثانية بالعودة إلى موضوعنا , نفهم أن كلام الهدهد بدأ , بقوله : " إني وجدت .. , وانتهى بقوله : " فهم لا يهتدون " , ليبدأ بعدها كلام الله بالمثنى : ألا يسجدوا .. , حتى قوله تعالى : " رب العرش العظيم " .

أي أن المثنى يعود فيه الخطاب من الآية إلى الله , لا إلى الهدهد . نقول ذلك , بعيدأ عن " الترقيم " الحاصل في القرآن فهو من وضع البشر , وبُنيت على ذلك الترقيم ثقافة متراكمة من الأحاديث الموضوعة , ومن يتأمل في المخطوطات القديمة للقرآن الكريم لن يجد الترقيم , فالآيات تلتئم مع بعضها جمعاً , في انسجام تام , يقوم كما قلنا من حيث البناء الفني الأسلوبي للجملة القرآنية على شكل المثاني , من هنا , وعلى هذا الأساس نقدر على قراءة القرآن بفهم أفضل ,وننسف ما قيل منذ الطبري وابن كثير بهذا الشأن , فتأملوا , فالحوار مايزال مفتوحاً , لمن يحب التعاطي بشكل مثالي معه , فيتعلم , ومنه نتعلم .

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق