الخميس، 2 أكتوبر 2014

بيان شعري , 1992 عبدالسلام الكبسي


نُعْلِنُ الآنَ قيامَ دولةِ الشِّعـر

رؤية : عبد السلام الكبسي، وعبد الكريم الوشلي

صحيفة الثورة , صنعاء , 1992 .

 

في هذا الزمان الرمادي المضبب الذي كاد يضل فيه سعينا بحثاً عن الذات. عن هوية نجهل المسؤول عن سفك دمها. عن عروبة تحتار في الدليل إلى الجزيرة النائية المسحورة التي نفي إليها عقلها.مازلنا نجري بحثاً عن قمر يقال له (الشعر)... هذا القمر المدهش لم يعد ذلك النبض الأخضر الذي يخفق به قلب سمائنا بل تحول إلى سحابة كثيفة من الغبار وتحولت أهازيجه الصيفية المبللة بجنين السنابل ورطوبة الندى إلى أسئلة مثقلة الكواهل بالحزن والحيرة.

ويتحول البحث إلى مغامرة خطيرة يخوضها ذهن المثقف في بلادنا المهتم بالشعر كقضية لا نتردد عن وصفها بـ (المصيرية). .. هذه القضية المخترقة بالخطوط بالغة التشابك والتعقيد.. ولكن هذه الخطوة لم تمتلك، بعد، السلطة التي تمكنها من قتل فضول الحياة في طموحنا القيام برحلة الاستقصاء وإن حبواً أليماً، في غابة الشعر الكثيفة الأدغال.. بخرافية خضرتها وإدهاش طبيعتها الحافلة بالفرح والحزن، اللذة والألم , العقل والجنون ، النار والثلج ونشوة الألوان البارقة وتشاؤمها.. أدركنا بوعي الشاعر الفني أن للبحر الطويل (فعولن، مفاعيلن، فعولن مفاعيلن)، زخماً إيقاعياً يتناسب والمناخ النفسي للمبدع عبر العصور , فالشعراء الكبار منذ (قفا نبك) حتى (على قدر أهل العزم..) كانوا على بينة من سحره لذلك أكثروا من استخدامه ليكون معبراً لشتى تجاربهم ومواقفهم النفسية تجاه الأحداث فرحاً حيناً ,وأحزاناً أحياناً أخر.

وإن من تعصى عليه (فعولن مفاعلين).. لم يكن بالشاعر النموذج. وإن كان بغيره ، "الشاعر العظيم" . وبالمقابل يصبح الشاعر رائداً إذا أمسك زمامه ونضجت به أحلامه، فهو بحر عجيب وغريب في نفس الآن : فعولن مفاعيلن .. محك واختبار لكل شاعرية وموهبة. إنها تلعب دوراً مهماً في بناء صرح القصيدة , وتمنح بسرها الشاعرَ فانتازيا  - بلا إقحام – الإبداع .. من سرب إلى سرب أقوى صعوداً حتى أعالي السماء الشعرية واكتشاف الأسماء.

يبدأ الشاعر أول ما يبدأ ، فرحاً – بلغة الطيور – ثم يصير بمرور السنين صقراً باطشاً ثم يتحول إلى أعظم نسر يحلق طاوياً الآفاق فاتحاً مدائن السماء وأحراش الأفضاء. . القصيدة المفعلة – كما يحلو لنا تسميتها – هي الأخرى جنية جميلة وغامضة لكنها أليفة. لا يستوطن قلبها أحد سوى من كان مارداً مدججاً بعلوم الأولين، محيطاً بأمور المحدثين خبيراً بسراديب القادمين وإلا فسقوطه شاعراً نثرياً – إن لم يخنا التعبير – أجدى وأقرب له من مطاردة الحمام بأجنحة متكسرة.

هذا زمن العودة صوب المستقبل،

عبر التراث في منابعه الأصيلة .

هذا زمن الشاعر المختلف , زمن القصيدة المختلفة.

هذا زمن الإنطلاقة من على ضفة أخرى.

لا نكتب القصيدة إلا حين نخاف, ولا نخاف إلا لحظة نشرع في الكتابة

تبدأ القصيدة لدينا كالوسواس . كلمة واحدة ووحيدة , فمقطع يدلف ذاهباً  , وقافلاً إلى أن يستقر النبض، وتبدأ الأمطار حتى الصباح.

يختار الشعر – في الإيقاع – طريقته.. بلا حداء مسبق أو هنهنة تمهد سبيل إنسيابه. البحور الشعرية الستة عشر في أيدينا ذلولة لحظة تغوينا الأشياء. الأشياء التي تشبه كل الأشياء،ولا تشبهها , فندلف غمرات المخاطرة ,ونعلن ، شوقاً , المغامرة.

للقافية دورها الخطيرة في صيرورة القصيدة بأكملها  إنْ أصابت كان حظ القصيدة الخلود وإلا فما أسهل تمزيقها أو إحراقها وذر رمادها على نهر جار وقوى.

 فهذا شاعر قد لا يحرك فيك بشعره ساكناً , ويبعث في دمك نشوة لكنه قد يخدعك كالساحر بمراياه ,ويضللك بدخانه الملون لكنه في الأخير كالزبد يذهب جفاء ويبقى في الارض ما ينفع اليأس..

وهذا شاعر آخر شعره كالمعجزة – وقد انتهى زمن المعجزات – يتغيأ لك سراً من أسرار الوجود. إنه سر الشعر, فللشعر أسرار وغايات محجوبة لا تنكشف لأحد من الناس إن شئت سوى للقليل القليل منهم على مدى تعاقب الأيام وتراكض الدهور منذ كانت الكلمة هي البدء..."

للشعر قدسيته. فله نجل ونسمع ونطيع وإن تجرأ على حرمه البائسون والصعاليك والمتسكعون وما أكثرهم في عالمنا الثقافي . لا مكان هنا سوى للمتنبي . ليطرد كل الشعراء، من مملكتي – هكذا قال الشعر-.

 لسنا ضد الحداثة كما أننا لم نكن يوماً مع الحداثة الآتية إقحاماً علينا. إننا للحداثة القادمة من أعماقنا كمبدعين يشدنا الجديد ويأسرنا الأصيل منه . نؤمن بضرورة تطور القصيدة ,وهي أسمى ما يطرح من انواع متعددة ومغايرة من ضروب الفن. ذلك لأننا ندرك مدى ما غيرته الحافلة كمثالٍ في كثير من المفاهيم الثقافية والاجتماعية على وجه الخصوص. يبحث الأغراب في أشعارنا عن نكهة القات , لأنه شجرتنا المقدسة إذا لم يخنا التعبير , وذلك الغبار الذي يلوننا ويطهرنا. وجوهنا في الغالب قمحية , وحبنا الإنتماء إلى التراب يوحدنا إنساناً وحضارة.

نحترم كبارنا ونجلهم كل الإجلال ذلك لأننا نرى فيهم سر وجودنا , وانطلاقتنا صوب النور وجنائن المرجان.

الشاعر إنسان ذو قضية، لذا فهو الشهيد، إذا ناب خطب واشتد كرب. نؤمن بما يسمى الإدراك والوعي الفني كضرورة حتمية لا بديل عنها , ونحتفل بالرمزية كما لا نرضى عن المشابهة في سيرة الشعر. نؤمن بالرؤيا الشعرية لأنها كائن مستقبلي،

" فالشعراء الذين ظهروا في مختلف العصور ويبدو أنهم مختلفون عن الناس العاديين في ناحية مهمة.. إذ يبدون متمتعين بقدرة أعظم كثيراً على الاحتفاظ بقوة تخيلية أمداً طويلاً فنحن حيواتنا محصورين في الزمان والمكان والضروريات البسيطة للحياة اليومية وما الوعي اساساً إلا وسيلة لإدراك ما يدور حولنا ولكن يبدو أن الشعراء قادرون على استخدامه لغرض آخر مختلف . هو تنمية نوع من العالم الباطني قوته تنافس قوة الواقع الفيزيائي المحيط بنا.." ، فهو " الإنسان المفطور على حاستي الذاكرة والتوقع إذ أنه ينظم حياته داخل شبكة نسيجها الماضي والحاضر والمستقبل". تغوينا قافية القصيدة إن كانت ميماً لها الضم روياً : بسيطاً كان بحر القصيدة أم طويلاً سيان فكلاهما بحران شعريان خطيران عبر الأزمنة ولا يستطيع أن يمتطي صهوتها أحد إلا من كان مارداً جباراً لا يهزم له عزم ولا يفل له حزم وقد امتلك من أسراره الويته وكتائبه وطوعه لسلطانه ولا سلطان على الشعر.

الشعر دولة حازمة وقانون عادل، هذه الدولة مهابة يحترمها المبدعون لأنهم قبل كل شيء يؤمنون بها وجوداً، ولأنهم يدركون مدى أهمية استمرارها وبقائها , وبالمقابل هناك من يتنكر لها ويكفر بها أمثال هؤلاء اللصوص من المتشاعرين وقطاع الطرقات . نعرفهم جيداً بأشكالهم – إن جاز لنا القول – التي تشبه أو بالأصح لا تتنافر وطبيعة الفئران ومصيرهم – عبر التاريخ – الأرصفة والحفر الموبوءة والسراديب المظلمة. إنه قانون الشعر , فللشعر دولة وقانون.

لقد قلنا في أكثر من مكان أن الشعر مملكة من العصافير الضوئية والملونة يتجاوز إغراءً بإنزياحاته كل الأشكال الجميلة من فنون القول. فهو – إن جاز لنا التصنيف – أدنى منزلة من القرآن بلاغةً وحلاوةً وسحراً ,وأرفع درجة من بقية ضروب الكلام وللشعر طباع تتشابه والأرواح (فما اتفق منه أئتلف وما اضطرب منه اختلف) أليس ما الشعر بأرواح مجندة. نؤمن بضرورة الحرب إذا كانت نصراً للحق وشفاء من الباطل , وذلك لأننا نؤمن بواجب الخروج على الحاكم الظالم . ولقد صار أن وحدتنا الحرب تراباً وإنساناً لمثل هذه الحرب الشريفة التي قامت ضد الخونة العملاء والمتآمرين الغرباء أشعارنا وصلاتنا.. لمثلها نقرع الطبول ونرمي النبل ونمتشق مسرعين السيوف. للواقع المحيط بنا نرهف السمع لأن الواقع هو الفلك الحتمي لدوران الذات . ذات الشاعر الفردية والإنسانية والحضارية هي الحاضر الأبدي – غاية ووسيلة – بين أدغال الغابة التي يفني عمره تجوالاً بها.

لا نرى إن الكتابة الإبداعية – والشعرية خصوصاً – طريقة صوفية .. وبالتالي نرى وهماً وعبثاً إن ينظر إلى الشاعر كناسك بوذي يدخل صومعته ويغلق على نفسه أبوابها ليكتب ويهذي بتهويمات خرساء لا يتورع عن تسميتها (شعر). وندعو إلى أن يكون الشعر ابناً شرعياً ومخلصاً لبيئته وجوهرها نبض الإنسان. كما لا نتورع عن توجيه الدعوة إلى القصيدة لكي تنزل إلى الشارع، وتلعب مع الأطفال الذين لا يستطيع آباؤهم إدخالهم ملاهي الأطفال الباهظة الثمن , وتتجول في الأزقة الترابية ,وتنكسر أقدامها بحثاً عن علبة حليب لا تملك ثمنها. نعتقد بوجود غاية للشعر أسمى من كل الغايات ومرتبة أعلى من كل المراتب ألا وهي الإيمان.

ننادي الآن بقيام دولة الشعر سؤالاً إثر سؤال في اطراد عبر السنين , وننادي اليوم بمحاكمة كل من يهمش قداسة الكلمة إنصافاً لقلق الأصابع.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق