الجمعة، 19 أكتوبر 2012

مقاييس شعرية " الذوق الشخصي " الدكتور الشخصي

الدكتور عبدالسلام الكبسي

مقاييس شعرية :
 

1. الذوق الشخصي
يرى أغلب الشاعريين أن الأعمال الإبداعية التي لا يكون فيها التفوق، مطلقاً، وكبيراً، لا تفسح للمقاييس مجالاً للأخذ بها في تقديرها، وتقييمها. وعلى العكس من ذلك، فإن الإبداعات الممتازة التي، بالإضافة إلى أنها لا تتعصى على المقاييس، تمنح النقاد القدرة في اجتراح مقاييس جديدة، في ضوئها لا تفهم الإبداعات المانحة نفسها فحسب، وإنما القديم من التجارب بإنصافه، ووضعه في مكانه اللائق والمناسب، إزاء التجارب الجديدة. من هؤلاء الشاعريين نختار الدكتور جونسون الذي يقول- في مقدمة طبعته لآثار شكسبير – في المعنى المتقدم نفسه " ليس ثمة مقياس يؤخذ به في تقدير الأعمال (…) التي لا تعتمد على مبادئ واضحة علمية، بل تعتمد كلية على الملاحظة والتجربة سوى تقادم الزمن واستمرار تقدير الناس لها (…) وما تقادمت معرفة الناس به فهو شيء طال بهم تأمله والوقوف عنده وما طال تأمله والوقوف عنده هو أقرب الأشياء إلى الفهم الصحيح ومعنى هذا أن النظر إلى قدم الشيء وشيوعه يمكن أن يعد استئناساً واحتكاماً إلى شهادة أعداد متبوعة من الناس خلال فترة طويلة من الزمن " (1).

والدكتور جونسون، بنفيه لإمكانية وجود مقياس، يحدثنا بمقياس، ما يمكن أن نقول له: "الشيوع والقدم"، مما يؤكد إمكانية وجود المقاييس، عند القدماء، على وجه التعدد، لا في تقدير الأعمال التي تعتمد على مبادئ واضحة علمية فحسب، بل والأعمال التي تنحو منحى سريالياً مثلاً، على الرغم من خرقها، في الغالب، لكل مبدأ يقوم على الوضوح، ويتصف بالعلمية.

لعل الذوق الشخصي واحد، من ذلك التعدد، في المقاييس، لا عند القدماء فقط، بل وعند المعاصرين، بعيداً، في امتداد الزمان، على اعتبار أن " الشعور الذاتي المفرط في ذاتيته يصلح أيضاً أساساً للعمل العلمي وهذا لا يمكن جحوده" (2)، بل لعله (أي الذوق الشخصي كمقياس) أهمها على الإطلاق، على اعتبار أن أي تناولة للأعمال الإبداعية لا يمكن لها أن تنجح منذ البدء، حتى النهاية إلا بالحصول على هذا المفتاح، الذي لا يمكن لكل أحد امتلاكه، والتمتع، كموهبةٍ بكشف الأسرار، أو استيعابها إلا به. فثمة " أمور خفية، ومعان روحية، أنت لا تستطيع أن تنبه السامع لها، وتحدث له علماً، حتى يكون مهيئاً لإدراكها، وتكون فيه طبيعة قابلة لها، ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما في نفسه إحساساً بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها المزية على الجملة ومن إذا تصفح الكلام وتدبر الشعر، فرق بين موقع شيء منها وشيء " (3)- حسب الجرجاني.

ولعل، من أفضل ما كنا قد وقفنا عنده، بهذا الشأن، نصاُ لأبي حامد الغزالي، الذي كان منشغلاً بالفلسفة، والتصوف، كفكر، أكثر من انشغاله بالشعر، وبالرغم من ذلك فقد بدأ شاعراً، حيث يقول، عبر نص طويل شيئاً ما، نثبته، هنا، كاملاً لأهميته ـ في مثل هذا السياق-

"وإن أردت مثالاً مما تشاهده من جملة خواص بعض البشر فانظر إلى ذوق الشعر كيف يختص به قوم من الناس وهو نوع إحساس وإدراك، ويحرم عنه بعضهم حتى لا تتميز عندهم الألحان الموزونة من المنزحفة. وانظر كيف عظمت قوة الذوق

في طائفة حتى استخرجوا بها الموسيقى والأغاني والأوتار وصنوف الدستانات التي منها المحزن، ومنها المطرب، ومنها المنوم، ومنها المضحك، ومنها المجنن، ومنها القاتل، ومنها الموجب للغشي. وإنما تقوى هذه الآثار فيمن له أصل الذوق. وأما العاطل عن خاصية الذوق فيشارك في سماع الصوت وتضعف فيه هذه الآثار، وهو ينعجب من صاحب الوجد والغشي، ولو اجتمع العقلاء كلهم من أرباب الذوق على تفهمه معنى الذوق لم يقدروا عليه. فهذا مثال في أمر خسيس لكنه قريب إلى فهمك، فقس به الذوق الخاص النبوي واجتهد أن تصير من أهل الذوق بشيء من ذلك الروح فإن للأولياء منه حظاً وافراً " (4).

فالذوق، على هذا الأساس، يلزم المبدع والمتلقي في آن واحدٍ، من حيث هو قدرة للمبدع على الإبداع، والتلقي معاً. والذوق موهبة، يختص بها أناس دون آخرين، لا تتملك بالدرس والإكراه، وإن كانت، مع الموهوب، ستقوى كلما صقلها معرفة، ونماها تجربةً، على عكس من العاطل منها. وإن له أهلاً، فاجتهد أن تصير من أهله بشيء من ذلك الروح. تلك، إذن، وصية الغزالي الذي لم يختلف مع الجرجاني، وإن اختلفت المنطلقات، في إرجاع أهميته، من حيث الدور الذي يؤديه، على نحو وظيفي، من خلال استشعار الروح في الأشياء، ومن ثم استدراكها، بتطويع أسرارها عند الإبداع.

2.1 الذوق كمقياس

1.2.1 التعددية في الأسماء

لم نجد أحداً من الشاعريين العرب القدماء، على الأقل، يختلف مع أحد في الرؤية إلى الذوق كمقياس، بالمفهوم الذي كان ديفد ديتشس قد ذهب إليه، حين اعتبره " الحكم الذي يفيض خلع الشرف الشعري على أثر دون الآخر"(5).

والمقصود بالذوق، هنا، ذلك الذوق الطبيعي. الذوق الذي لم تفسده التحيزات والأهواء، أو المبادئ والقوانين المتعسفة. فهذا ابن طباطبا، مثلاً، الذي ترد لفظة " الفهم" عنده بمعنى الذوق، يعده عياراً للشعر، حيث يقول : " وعيار الشعر أن يورد على الفهم الثاقب فما قبله واصطفاه فهو واف، وما مجه ونفاه فهو ناقص" (6).

مع حازم القرطاجن،ي نقرأ عبارة لأبي الحسن : " إن من المعاني المعبر عنها بالعبارات الحسنة ما تدرك له مع تلك العبارة حسناً لا تدركه له في غيرها من العبارات ولا تقدر أن تعبر عن الوجه الذي من أجله حسن إيراد ذلك المعنى في تلك العبارة دون غيرها ولا تعرب عن كنه حقيقته. إنما هو شيء يدركه الطبع السليم والفكر المسدد ولا يستطيع فيه اللسان مجاراة الهاجس"(7). فالذوق الذي سيرد بلفظة : " الطبع "، هو السبيل الوحيد الناجع إلى التعبير عن المعان،ي باختيار العبارات المناسبة للمعاني، وتمييز الحسن من السيء في الصياغة، وعند وقعها على النفس.

أما الآمدي، فقد عبر عنه بالطبع، ومن خلال إيراده لقصتين، نفهم أن الذوق أبلغ، نفاذاً وحجة، في استكناه الغامض الخفي الذي يمتنع على الآلة النقدية : "حكى إسحاق الموصلي قال : قال لي المعتصم: أخبرني عن معرفة النغم وبينها لي. فقلت : إن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة، ولا تؤديها الصفة. قال وسألني محمد الأمين عن شعرين متقاربين، وقال : إختر أحدهما، فاخترت، فقال : من أين فضلت هذا على هذا وهما متقاربان ؟ فقلت : لو تفاوتا لأمكنني التبيين، ولكنهما تقاربا وفضل هذا بشيء تشهد به الطبيعة ولا يعبر عنه اللسان "(8).

وهو الأمر نفسه الذي كان قد عبر عنه المرزوقي، بشأن المختارات من الشعر، على وجه الجودة، فيما لو سئل الناقد الحاذق: " عن سبب اختياره إياه، وعن الدلالة عليه، لم يمكنه في الجواب إلا أن يقول هكذا قضية طبعي، أو ارجع إلى غيري ممن له الدربة والعلم بمثله فإنه يحكم بمثل حكمي"(9)، لا من حيث الإشارة إلى الذوق بالطبع فقط، بل من حيث انعدام القدرة، غالباً، على التعليل. في الوقت الذي سيعلل ابن خلدون السبب، أثناء تعرضه لتجربتي : أهم شاعرين، وإن كان قد أحال ذلك على من " كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية كما مر فكان شعرهما كلاماً منظوماً نازلاً عن طبقة الشعر، والحاكم بذلك هـو الـذوق". (10). مما يعيد إلى أذهاننا، على نحو فوري، عبارة ديفد ديتشس السالفة الذكر، من أن الذوق هو " الحكم الذي يفيض خلع الشرف الشعري على أثر دون آخر" (11).

وبعيداً عن مصداقية عبارة ابن خلدون من عدمها، بخصوص المتنبي والمعري، حيث ليس ثمة مجال لمناقشة ذلك من جهة أولى، وكون ما يهمنا، بإيرادنا لها، هنا، من جهة ثانية، هو التأكيد، أخيراً، على أن الذوق كان، وما يزال واحداً من عدة مقاييس، إن لم يكن أهمها على الإطلاق. سنتعرض لها، بعد قليل، في تقييم التجارب الإبداعية عبر العصور. مع الإشارة، كملاحظة هامة، بخصوص الذوق كمقياس،إلى أنه يفتقر، على نحو إجرائي، إلى الدليل الملموس، الأمر الذي سيدفع بالشاعريين إلى البحث عن مقاييس، مع عدم الاستغناء عن الذوق، لها القدرة على تحليل التجارب الإبداعية، وتقييمها عبر تقديمها للدليل المادي الحي المحسوس.

ولقد حققت الشعرية العربية القديمة، بهذا الصدد، إنجازاتٍ كبيرة ومهمة، سنتعرض، بقصد حصرها، لا تحليلها للأبرز مما كانت قد قدمته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق