الجمعة، 19 أكتوبر 2012

مقاييس نقدية : اللفظ و المعنى الدكتورعبدالسلام الكبسي

الدكتورعبدالسلام الكبسي


. اللفظ والمعنى



شغلت قضية اللفظ والمعنى الشاعريين القدماء كثيراً، وقد فاضت، بالحديث عنهما، الكتب إلى حد التكرار والإجترار ، ما بين منتصر لهذا على ذلك، والعكس صحيح. فهذا أبو هلال العسكري الذي لم يكتف برؤيته إلى الألفاظ، كمعيار، على جودة الشعر، إذ "ليس الشأن في إيراد المعاني(…)، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي(…)، وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً " (33)، بذهابه أبعد من ذلك، في قصر التجربة بها، من حيث البراعة والحذق، بما تعنيه من روعة وجمال على الألفاظ فقط، حيث يقول : " ومن الدليل على أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ أن الخطب الرائعة، والأشعار الرائقة، ما عملت لإفهام المعاني فقط، لأن الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيدة منها في الإفهام، وإنما يدل حسن الكلام وإحكام صنعته، ورونق ألفاظه، وجودة مطالعه، وحسن مقاطعه، وبديع مباديه، وغريب مبانيه على فضل قائله، وفهم منشئه، وأكثر هذه الأوصاف ترجع إلى الألفاظ دون المعاني. وتوخي صواب المعنى أحسن من توخي هذه الأمور في الألفاظ، ولهذا تأنق الكاتب في الرسالة، والخطيب في الخطبة، والشاعر في القصيدة. يبالغون في تجويدها، ويغلون في ترتيبها، ليدلوا على براعتهم، وحذقهم بصناعتهم، ولو كان الأمر في المعاني لطرحوا أكثر ذلك فربحوا كداً كثيراً وأسقطوا عن أنفسهم تعباً طويلاً"(34).
وحيث اللفظ، من جانب مغاير، هو المعني بإيصال التجربة إلى مرحلة ما سمي بالسهل الممتنع من الشعر، من حيث أنه " أمنع جانباً، وأعز مطلباً، وهو أحسن موقعاً، وأعذب مستمعاً، ولهذا قيل أجود الكلام السهل الممتنع"(35)، وذلك كله في مواجهة الطرف الثاني المفترض من الشاعريين الذين كانوا قد مالوا إلى الغموض في المعنى، والتكلف في اللفظ، حيث يقول : " وقد غلب الجهل على قوم فصاروا يستجيدون الكلام، إذا لم يقفوا على معناه إلا بكد، ويستفصحونه إذا وجدوا ألفاظه كزة غليظة، وجاسة غريبة"(35).


فاللفظ ـ حسب أبي هلال، إذا كان " غثاً، ومعرضه رثاً كان مردوداً، ولو احتوى على أجل معنى وأنبله، وأرقعه وأفضله" (26). هذا وقد ضرب كل فريق أمثلة وشواهد، لا مكان هنا لعرضها، للتدليل على حجته في تقديم اللفظ على المعنى، أو في منح الأولوية للمعنى على اللفظ، أو في قصر الإبداع في هذا الجانب على ذلك الآخر، وأحياناً كانوا يحتجون بالشاهد نفسه المضروب من الشعر، مثلما حصل مع الأبيات التالية، لابن الطثرية: ـ


ولما قضينا من منى كل حاجة


ومسح بالأركان من هو ماسح


وشدت على حدب المهاري رحالنا


ولم ينظر الغادي الذي هو رائح


أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا


وسالت بأعناق المطي الأباطح (37).


مما يمنح معه الموضوعية كصفة للذين توسعوا، بإرجاع سر الإبداع، في التجربة الشعرية، إلى الاثنين معاً ( أي اللفظ والمعنى). فهذا عبد القاهر الجرجاني الذي كان قد دفع أصحاب نظرية اللفظ إزاء المعنى، بقوله:" فما به كان الشاعر مفلقاً، والخطيب مصقعاً، والكاتب بليغاً"(38)، أثناء اشتغاله على مفهوم الإعجاز الذي سيكون تمازج اللفظ بالمعنى وجهاً من وجوهه، لا بمفهوم أبي هلال، حيث يقول : " المعاني تحل من الكلام محل الأبدان، والألفاظ تجري معها مجرى الكسوة" (39)، بل بالمفهوم الذي كان قد عبر عنه ابن رشيق، لاحقاً، بقوله : " اللفظ جسم، روحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم: يضعف بضعفه، ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختل اللفظ، كان نقصاً للشعر وهجنةً عليه، (…)، وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضه كان للفظ من ذلك أوفر حظ (…)، ولا نجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ وجريه فيه على غير الواجب، قياساً على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح "(40).


وعليه، ففي تمازج اللفظ بالمعنى، أو في تعانقهما، أو تلابسهما، أو توافقهما تشرق " ثريا البلاغة" (41)- حسب المرزوقي، حيث " لا غاية وراء هذا" (42).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق