الجمعة، 19 أكتوبر 2012

مقاييس نقدية : الحقيقة والمجاز الدكتور عبدالسلام الكبسي

الدكتور عبدالسلام الكبسي
 
 
الحقيقة والمجاز


ينفرد عبد القاهر الجرجاني بهذا المقياس الذي كان قد فطن إليه، أثناء تأمله في المعاني، عبر فصل في الأخذ والسرقة، وما في ذلك من التعليل وضروب الحقيقة والتخييل، من خلال تقسيمه للمعاني أولاً إلى قسمين : " عقلي وتخييلي، وكل واحد منهما يتنوع"(24)،وبربطهما إياه بالصدق والكذب. فما جرى مجرى الأدلة التي تستنبطها العقلاء، والفوائد التي تثيرها الحكماء لم يكن له في الشعر نصيب " لذلك تجد الأكثر من هذا الجنس منتزعاً من أحاديث النبي (ص)، وكلام الصحابة (رض)، ومنقولاً من آثار السلف الذي شأنهم الصدق، وقصدهم الحق، أو ترى له أصلاً في الأمثال القديمة والحكم المأثورة عند القدماء" (25). وقد ضرب الجرجاني أمثلة، كأدلة على صحة ما ذهب إليه، للقسمين كليهما. فالحقيقة هي اللاشعر لاندراجها ضمن العقلي، ويدخل تحتها، كنموذج، قول المتنبي :ـ


وكل امرئ يولي الجميل محبب                            وكل مكان ينبت العزَّ طيبُ

فهو- وما شابه ذلك – "صريح معنى ليس للشعر في جوهره وذاته نصيب، وإنما له ما يلبسه من اللفظ ويكسوه من العبارة وكيفية التأدية من الاختصار وخلافه، والكشف أو ضده، وأصله قول النبي (ص) : " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها"، بل قول الله عز وجل : " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" (سورة فصلت: 34). وكذا قوله : لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدمُ. معنى معقول لم يزل العقلاء يقضون بصحته، ويرى العارفون بالسياسة الأخذ بسنته، وبه جاءت أوامر الله سبحانه، وعليه جرت الأحكام الشرعية والسنن النبوية، وبه استقام لأهل الدين دينهم، وانتفى عنهم أذى من يفتنهم ويضيرهم. إذ كان موضوع الجبلة على أن لا تخلو الدنيا من الطغاة الماردين، والغواة المعاندين، الذين لا يعون الحكمة فتردعهم، ولا يتصورون الرشد فيكفهم النصح ويمنعهم، ولا يحسون بنقائض الغي والضلال، وما في الجور والظلم من الضعة والخبال (…) فلو لم تطبع لأمثالهم السيوف، ولم تطلق فيهم الحتوف، لما استقام دين ولا دنيا، ولا نال أهل الشرف ما نالوه من الرتبة العليا، فلا يطيب الشرب من منهل لم تنف عنه الأقذاء، ولا تقر الروح في بدن لم تدفع عنه الأدواء. وكذلك قوله :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

                                  وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

ووضع الندى في موضع السيف بالعلى

                                 مضر كوضع السيف في موضع الندى

وأما القسم التخييلي، فهو الذي لا يمكن أن يقال إنه صدق، وإن ما أثبته ثابت وما نفاه منفى. وهو مفتن المذاهب، كثير المسالك، لا يكاد يحصر إلا تقريباً، ولا يحاط به تقسيماً ولا تبويباً. ثم إنه يجيئ طبقات ويأتي على درجات، فمنه ما يجيء مصنوعاً قد تلطف فيه، واستعين عليه بالرفق والحذق، حتى أعطى شبهاً من الحق، وغشى رونقاً من الصدق، باحتجاج تمحل، وقياس تصنع فيه وتعمل، ومثاله قول أبي تمام :

لا تنكري عطل الكريم من الغنى /  فالسيل حرب للمكان العالي

فهذا قد خيل إلى السامع أن الكريم إذا كان موصوفاً بالعلو، والرفعة في قدره، وكان الغنى كالغيث في حاجة الخلق إليه وعظم نفعه، وجب بالقياس أن يزل عن الكريم، زليل السيل عن الطود العظيم. ومعلوم أنه قياس تخييلي وإيهام، لا تحصيل وإحكام. فالعلة في أن السيل لا يستقر على الأمكنة العالية، أن الماء سيال لا يثبت إلا إذا حصل في موضع له جوانب تدفعه عن الانصباب، وتمنعه عن الانسياب، وليس في الكريم والمال، شيء من هذه الخلال" (26).

لكن، على الرغم من أهمية هذا المقياس الذي اجترحه الجرجاني، أثناء تأمله المعاني، على نحو التفرد، بنسبته إليه من جهة أولى وبصلاحية استعماله على بعض التجارب الشعرية المحدودة من جهة ثانية، إلا أن صاحبه- مثلما كنا قد رأينا- لم يكن موفقاً بضربه المتنبي، تجربةً، على وجه التمثيل للحقيقة كمقياس، لانعدام الشعر فيها مما يهدم لا تجربة المتنبي فحسب، وإنما تجارب الكثير من الشعراء المبدعين أمثال: زهير بن أبي سلمى، و المعري ،و أبي تمام، وأضرابهم،. بالإضافة إلى هدمه مفهوم الشعر ، لا كوزن وقافية فقط، بل كصياغة، وهو ما يتناقض وأهم آرائه، بخصوص الصياغة التي يتميز بها الشعراء الفحول البزل- على حد تعبيره، وما كان قد ذهب إليه الجاحظ، من قبل، بنظريته الشهيرة بشأن المعاني الملقاة في قارعة الطريق، وغير ذلك مما لا مجال هنا للاسترسال فيه، وإن كان من المهم الإشارة إلى أننا كنا قد ناقشنا هذا الموضوع في الفصل الخاص بمفهوم ما اصطلحنا عليه ب " الصياغة النهائية في التجربة الإنسانية" فتأمل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق