الأحد، 15 يوليو 2012

نحو منهج نقدي , الجزء 3


الباب الثاني





تصنيف التجربة الشعرية من خلال التقسيم الرباعي : 

1.    الاختلاف

2.    الإيقاع الشخصي

3.     الشاعرية(اللا أسلوب(

4.    الصياغة النهائية.





























الفصل الأول

الإختـلاف



1-      مفهوم الشاعر المختلف لدى النقاد

يعرف محمد بنيس الاختلاف، من خلال تعريفه لشاعر التجربة، إذ لا يمكن أن تمنح هذه الصفة ( أي الاختلاف) إلا للشاعر " الذي يحدث قطيعة إبستيمولوجية  (معرفية)  بينه وبين أسلافه كأبي تمام في العصر العباسي " (1).

وعليه، فإن محمد بنيس- بهذه الرؤية- سيمنحنا فسحة من الحرية في البحث استقراءً،على وجه الدقة، عن مفهوم لهذا المصطلح، في الشعرية العربية القديمة قبل المعاصرة. بالعودة  - قبل أن نلج المسألة من حيث تصح البداية- إلى لسان العرب، لابن منظور، نقرأ : " وأنشد لزهير :

          بها العين والآرام يمشين خلفةً

                                     وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

وقيل : معنى قول زهير يمشين خلفةً مختلفات في أنها ضربان في ألوانها وهيئتها، وتكون خلفة في مشيتها، تذهب كذا، وتجيء كذا " (2).

والواضح – حسب القاموس - إن الاختلاف ضد المشابهة، التي سيعرفها ابن سينا على أنها " اتحاد في الكيف" (3).

لكن، بالرغم من أهمية ما أمكن للقاموس منحنا إياه، بهذا الشأن، إلا أن ثمة قصوراً، يتمثل في رؤيته إلى الاختلاف من وجه واحد، مما يصعب علينا إطلاقه على نحو ما كان قد رآه الشاعريون العرب القدماء، فما بالك بالمعاصرين.

فقد فطنوا ، (أي القدماء)، أولاً،  إلى مسألة الاختلاف كصفة مميزة يتمتع بحيازتها الشاعر الكبير دون الآخرين، انطلاقا من تأملهم في تجارب أهم الشعراء الذين كانوا قد أحدثوا باختلافهم، ثانيا، ما عبر عنه محمد بنيس " بالقطيعة المعرفية " (4)، وذلك عبر   " تجربة كيانية تاريخية كبرى" – حسب عبد المجيد زراقط(5). وتبعاً لذلك فقد تغير، اختلافا، مفهوم الشعر وطريقة الرؤية ، من خلاله، إلى الأشياء، والعالم، والوجود. فهذا الآمدي، مثلا،  سيرى أن السر في تقديم أبي تمام يعود إلى " انفراده بمذهب اخترعه، وصار فيه أولاً وإماما متبوعاً، وشهر به حتى قيل: هذا مذهب أبي تمام، وطريقة أبي تمام، وسلك الناس نهجه، واقتفوا أثره ".(6)

   من قبله، كان ابن سلام الجمحي قد أورد، في طبقات الشعراء، كلاماً، لآراء متباينة، بخصوص الاختلاف، في تجارب الشعراء، ومنهم على وجه الكثرة امرؤ القيس الذي كان قد انقسم الناس حوله، على أساس من تعدد وجوه الاختلاف لديه : " فاحتج لامرئ القيس من يقدمه قال : ما قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها استحسنتها العرب واتبعته فيه الشعراء،منها: استيقاف صحبه، والبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ، وشبه النساء بالظباء والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وقيد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى"(7).

   وهو نفسه ما سيثبته، بخصوص امرئ القيس، ابن قتيبة في روايته لما " قال أبو عبيد معمر بن المثنى : يقول من فضله : إنه أول من فتح الشعر، واستوقف،  وبكى الدمن من ما فيها. ثم قال دع ذا رغبة عن المنسبة، فتبعوا أثره. وهو أول من شب الخيل بالعصا واللقوة والسبع والظباء والطير، فتبعه الشعراء على تشبيهها بهـذه الأوصاف"(8).

وأساسا على ذلك، فالاختلاف يتحقق بالانفراد بطريقة في الكتابة الشعرية على وجه مغاير، كما ذهب إلى ذلك الآمدي. أو بالسبق إلى الأشياء على نحو الابتداع مع الجمحي. أو الابتداء بصنعة في القول الشعري  شريطة الاشتهار، بجذبها الشعراء الآخرين لتقليدها، أو للإفادة منها لا في المعاني فحسب، مثلما حدد الآمدي ذلك بقوله : " ولولا لطيف المعاني واجتهاد امرئ القيس فيها، وإقباله عليها لما تقدم على غيره، ولكان كسائر شعراء أهل زمانه، إذ ليست له فصاحة توصف بالزيادة على فصاحتهم، ولا لألفاظه من الجزالة والقوة ما ليس لألفاظهم" (9)، وإنما، بالإضافة إلى كل ذلك، بتقديمها في إطار مختلف من الشكل، أو بمعنى ما كان قد عبر عنه عبد القاهر الجرجاني، على نحو أولي، بالسبق إلى اختراع نوع من الصنعة حتى يصير إماماً، ويكون من بعده تبعاً له وعيالاً عليه، وحتى تعرف تلك الصنعة بالنسبة إليه، فيقال : " صنعة فلان"، و" عمل فلان"، ووضعته(10) . وهو ما كان قد عبر عنه نفسه كل من: أبي هلال العسكري من قبل، وابن رشيق، فيما بعد، وغيرهما. فإذا كان الأول قد رأى أن الشاعر المختلف هو  "المقدم في صنعة الكلام، و‎‎ذلك باستيلائه عليه من جميع جهاته، المتمكن من جميع أنواعه"(11)،  فإن الثاني سيتعرف إلى الشاعر المختلف من خلال تعريفه للشعر المختلف إذ هو "المخترع من الشعر ما لم يسبق إليه صاحبه، ولا عمل أحد من الشعراء قبله نظير، أو ما يقرب منه" (12).

1.1. أراء الشعراء في الشعراء:

وعلى الرغم من تشابه هذه الآراء النقدية والرؤى للنقاد حد المطابقة إلا أنها أوضح، وأدق، من تلك الآراء التي كانت تصدر، على وجه المفاضلة، من طرف الشعراء على الشعراء، كأن نقرأ في كتاب الصناعتين أن البحتري قد فضل الفرزدق على جرير، بزعم منه،أن الأول " يتصرف في المعاني فيما لا يتصرف فيه جرير، ويورد منه في شعره في كل قصيدة خلاف ما يورده في الأخرى" (13).

في الوقت نفسه الذي نقرأ فيه رأيا للبحتري نفسه، مع ابن رشيق، في أبي نواس، فقد " حكى الصاحب بن عباد في صدر رسالة صنعها على أبي الطيب، قال حدثني محمد بن يوسف الحمادي، قال حضرت بمجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وقد حضره البحتري فقال: يا أبا عبادة، أمسلم أشعر أم أبو نواس ؟  فقال: بل أبو نواس، لأنه يتصرف في كل طريق ويبرع في كل مذهب، إن شاء جد، وإن شاء هزل، ومسلم يلزم طريقاً واحداً لا يتعداه، ويتحقق بمذهب لا يتخطاه " (14).

الواضح أن هذه الرؤية للبحتري لا ترمي إلى الاختلاف من حيث المفهوم الذي كان قد تحدث عنه النقاد، برصدهم له، على نحو مباشر، في ما عبر عنه بالسبق، أو الابتداء، أو القطيعة، بقدر ما تمس الفروق بين الشعراء من حيث القدرة على عدم التكرار مع الفرزدق مثلا، أو القدرة على التجويد في كل موضوع طرقه الشاعر أبو نواس. والمهم في المسألة، أن قضية الاختلاف كانت واردة، وواضحة لا لبس فيها عند الشاعريين القدماء، وإن لم نجد ما يشبع الموضوع على نحو إجرائي، لديهم من حيث الكيفية، اللهم ما كانت قد تمت الإشارة إليه بخصوص امرئ القيس، وأبي تمام وحسب، على الرغم من وجود شعراء  ينطبق على تجاربهم مقياس  الاختلاف، بامتياز: كالمتنبي، وابن الرومي، والكميت بن زيد الأسدى وغيرهم من الشعراء العذريين المخضرمين، على وجه التحديد. فقد شكل الإسلام بالنسبة لهؤلاء الأخيرين قطيعة لا في الشكل والمعنى فحسب، بل في الرؤيا إلى الشعر، في علاقته بالكون من حوله، والغاية من قوله، على وجه الرسالة، عبر مفردات الإسلام كدين سماوي، في حملها لدلالات ورموز مختلفة بحق. لكن، ومع ذلك، يبدو أن المسألة رهينة بوجود الشاعر الكبير الذي سيبلور هذه القطيعة بإنجازاته من جهة أولى، وبالظروف التي مر بها الشاعر المخضرم، إذ شكل له النص القرآني ما يمكن أن نسميه حاجزاً، لأسباب معروفة ليس هنا مكانها الآن على الأقل، سيخترقه مفيداً منه (أي القرآن) فيما بعد، من جهة ثانية، خصوصا وقد تهيأت الظروف لقول الشعر في اطمئنان، وعلى نحو ما وصلنا من نضوج في الثقافة العربية القديمة: شعراً ونثراً، عبر مختلف العصور.

2.1.  الجرجاني : نحو مفهوم شامل للاختلاف

1.2.1.            مبدأ نقض العادة

مع عبد القاهر الجرجاني ستنضج الرؤية ببلوغها الحد الأقصى، وذلك بمنحه- عن طريق خرقه لكل مفهوم سابق أو لاحق  في الثقافة العربية القديمة تحديدا   للاختلاف كمفهوم، بعداً شاملا،ً عن طريق ما سماه  " بنقض العادة" كمصطلح، كان قد خصصه، قصراً، على النص القرآني، أثناء انشغاله بمسألة الإعجاز، في تنفيذه بدءاً بعض المسلمات، كقولهم: " وقد جرت العادة بأن يبقى في الزمان من يفوت أهله حتى يسلموا له، وحتى لا يطمع أحد في مداناته، وحتى ليقع الإجماع منهم أنه الفرد الذي لا ينازع. ثم يذكرون امرئ القيس والشعراء الذين قدموا على من كان معهم في أعصارهم، وربما ذكروا الجاحظ وكل مذكور بأنه كان أفضل من كان في عصره، ولهم في هذا الباب خبط وتخليط لا إلى غاية" (15) ، وانتهاءً بسخريته بمن خيل إليهم " من جهال الملاحدة، أنه كان في المتأخرين من البلغاء كالجاحظ وأشباه الجاحظ، من استطاع معارضة القرآن " (16)،  وذلك في آن واحد " فمن أعظم الجهل وأشد الغباوة، أن يجعل تقدم أحدهم لأهل زمانه من باب نقض العادة، وأن يعد معد المعجز" (17)، وذلك أن الشرط في المزية الناقضة للعادة، أن يبلغ الأمر فيها إلى حيث يبهر ويقهر، حتى تنقطع الأطماع عن المعارضة، وتخرس الألسن عن دعوى المداناة، وحتى لا تحدث نفس صاحبها بأن يتصدى، ولا يجول في خلد أن الإتيان بمثله يمكن، وحتى يكون يأسهم منه وإحساسهم بالعجز عنه في بعضه، مثل ذلك في  كله (…) وطريقة أخرى في ذلك، وتقرير له على ترتيب آخر وهو أن الفضل يجب والتقديم، إما لمعنى غريب يسبق إليه الشاعر فيستخرجه، أو استعارة بعيدة يفطن لها، أو لطريقة في النظم يخترعها. ومعلوم أن المعول في دليل الإعجاز على النظم، ومعلوم كذلك أن ليس الدليل في المجيء بنظم لم يوجد من قبل فقط، بل في ذلك مضموماً إلى أن يبين ذلك " النظم" من سائر ما عرف ويعرف من ضروب " النظم"، وما يعرف أهل العصر من أنفسهم أنهم يستطيعونه، البينونة التي لا يعرض معها شك لواحد منهم أن لا يستطيعه، ولا يهتدي لكنه أمره، حتى يكونوا في استشعار اليأس من أن يقدروا على مثله، وما يجري مجرى المثل له، على صورة واحدة، وحتى كأن قلوبهم في ذلك قد أفرغت في قالب واحد (…) وذلك أن الشرط في نقض العادة أن يعم الأزمان كلها" (18). وبناءً عليه فإن نقض العادة ليس له أن يتحقق ب" مجرد التقدم أو الأسبقية، كأن يتقدم شاعر على شعراء عصره، وليس في مجرد المعاني الغريبة أو الاستعارات التي يسبق إليها الشاعر، وليس كذلك في مجرد الطريقة الكتابية التي يبتكرها أو الأسلوب الذي يحدثه. إن نقض العادة في الكتابة، كما يحدده الجرجاني، لا يتم إلا بتحقيق الأشياء التالية مجتمعة :

1-      طريقة كتابية لم توجد من قبل.

2-      اختلاف هذه الطريقة عن سائر ما عرف أو ما قد يعرف من الطرق.

3-      يجب أن يكون هذا الاختلاف أصيلاً وفذاً، بحيث يشعر الجميع أنهم لا يستطيعون مضاهاة الطريقة الكتابية التي يمثلها، ولا يهتدون لكنه أمرها، ولا يقدرون على مثلها.

4-      أخيرا، يجب أن يعم هذا لاختلاف العصور كلها، لا العصر وحده الذي نشأ فيه"(19).

هذا الأخير المجمل في النقاط الأربع السابقة إنما هو ملخص أدونيس، وقد اعتمدناه لدقته وإحاطته، بعد استعراضنا لنص الجرجاني، من قبله، لتتم الفائدة، وإن كان ثمة ما يمكن الإشارة إليه، فهو استخدام أدونيس لكلمة " الكتابة" بدلاً من " النظم" على الرغم من اختلاف دلالتهما، عند كليهما، من حيث المفهوم والمرجعية (20).

"وبالرغم من أن الجرجاني، هنا، يشير، في تحديده نقض لعادة إلى النص القرآني، وليس إلى النصوص الشعرية" (21) - حسب أدونيس-، فإننا نرى أن ثمة أكثر من شرط من الممكن أن تنسحب لا على النص الشعري فحسب، بل على كل نشاط إنساني، له علاقة بالإبداع، على وجه الاختلاف تحديداً.

2.المعاصرون والاختلاف

1.2. التأسيس لاتجاه تحويل

2.1.2. اشتهار الطريقة على نحو تدريجي

من خلال بحثه في تجربة الكميت بن زيد الأسدي كشاعر مختلف، استطاع أن يفيد من الخطابة في توظيفه لخصائصها، في بناء القصيدة، يرى عبد المجيد زراقط أن الاختلاف في الشعر، بعد أن يقرر أن الشكل لا يتم البحث عنه خارج الذات الشاعرة، وإنما في انبثاقه منها، مجسداً، تجربة حياتية للشاعر في الشعر   " تتضمن رؤية نافذة في التأسيس لاتجاه تحويلي من جهة أولى، وفي تجسيد الشاعر لتجربة تاريخية، في الوقت الذي تعبر فيه عن الخاص، يكون الشكل الذي يجسدها شكل المرحلة التي ينهض بأداء الوظيفة التاريخية " (22)، وهي رؤية لا تخرج عن نطاق ما كان قد أجمع عليه الأولون، علاوة على إشارتها، من حيث الأهمية، إلى بعض التجارب الشعرية للشعراء المختلفين الذين شكلوا ما يمكن أن نسميه بالمنعطف، أو المفصل الذي يعنى بالقصيدة من حيث الصيرورة كاستثناءات، أو إضافات في الكيف، ما بين عصر وعصر.

مع أدونيس الذي كان من أوائل المنظرين للاختلاف، والمهووسين بالنمذجة له، فإن الاختلاف بعد نفيه له، أولاً، أن يكون متابعة، أو انسجاماً، أو ائتلافاً هو: ثانياً، " بحث مستمر عن نظام آخر للكتابة الشعرية، وهو ثالثاً، تحرك دائم في أفق الإبداع: لا منهجية مسبقة، بل مفاجآت مستمرة وهو رابعاً، ليس تراكمياً، …، بل بداية فقيم الإبداع الشعري ليست تراكمية، بل انبثاقية" (23) ولذا صار من الوجوب " أن تنشأ مع كل شاعر طريقته التي تعبر عن تجربته وحياته لا أن يرث طريقة جاهزة.فلا طريقة عامة نهائية في الشعر" (24).

والشاعر المختلف هو الذي يسعى دوماً إلى أن تصبح طريقته بالتدريج من الطرق المشهورة- حسب أليوت (25)، ولن يتأتى له ذلك ما لم " يدخل تجديداً على سنن أسلافه في صميم بناء طريقته الخاصة في النظم " (26) على حد شيللي.

وفي الوقت الذي لا ينفي شعر أسلافه" يعبر عن تجربته الخاصة المغايرة في مرحلته التاريخية الخاصة المغايرة. ولهذا فإن عالمه الشعري، مغاير، بالضرورة " (27).









(1) – محمد بنيس، محاضرات في الشعر العربي المعاصر، لبكلية الآداب الرباط، السلك III، العام الجامعي 95-1996م.

(2) – ابن منظور، لسان العرب، المجلد التاسع، دار الكتب العلمية، بيروت ، لبنان، ص 86.

(3) – حازم القرطاجني، منهاج البلغاء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجه، دار الغرب الإسلامي، ط3، ،1986ص 74.

(4) – محمد بنيس، محاضرات في الشعر العربي المعاصر، كلية الآداب، الرباط، العام الجامعي95-1996م.

(5) ـ عبد المجيد زراقط ، في مفهوم الشعر ونقده، دار الحق، بيروت، لبنان، ط1، 1998م، ص 176.

(6) – الآمدي، الموازنة، ص 26.

(7) – ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء،(م.س)، ص 47.

(8) – ابن قتيبة، الشعر والشعراء،(م.س)، ص 134.

(9) – الأمدي، الموازنة،(م.س)، ص 378-379.

(10) – عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، قرأه، محمود محمد شاكر(م.س)، ص 472.

(11) – أبــو هلال العسكري، كتاب الصناعتين، تحقيق على البجاوي ومحمد أبو الفضل ابراهيم، المكتبة العصرية- صيدا- بيروت، ط I، 1986، ص 24.



(12) – ابن رشيق، العمدة،(م.س)، ص 449.

(13) – أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين،(م.س)، ص 24.

(14) - ابن رشيق، العمدة،(م.س)، ص 774.

(15) – عبد القاهر الجرجاني،دلائل الإعجاز،  الرسالة الشافية، قراءة محمود محمد شاكر، (م.س)، ص 590.

(16) - نفسه، ص 595.

(17) – نفسه، ص 595-596.

(18) – عبد القاهر الجرجاني،دلائل الإعجاز، الرسالة الشافية،  قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، (م.س)،ص 596.

(19) – أدونيس: كلام البدايات،(م.س)، ص 166.

(20) – أنظر محمد بنيس، الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدلاتها ( 3- الشعر المعاصر)، دار توبقال- الدار البيضاء،   ط I، 1990، ص 47، ص 73

(21) – أدونيس، كلام البدايات،(م.س)، ص 166.

(22) – عبد المجيد زراقط، في مفهوم الشعر ونقده،(م.س)، ص 176.

(23) – أدونيس، زمن الشعر، دار العودة، بيروت، لبنان، ط3، 1983، ص 289.

(24) – أدونيس، مقدمة للشعر العربي، دار العودة، بيروت، لبنان، ط3، 1979،  ص 43.

(25) – أليوت، فائدة الشعر وفائدة النقد،(م.س)، ص 39.

(26) -ديفد ديتشس،مناهج النقد، (م.س)، ص 182.

(27) – أدونيس، الثابت والمتحول (صدمة الحداثة)، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط5، 1986، ص 230.















الفصل الثاني

الإيقاع الشخصي



1 . الإيقاع الشخصي جديد في الخطاب النقدي المعاصر

1.1. من الذات إلى الأسلوب

لا شك أن الوسيلة المختلفة، التي يطرقها الشاعر في قصيدته، للوصول إلى قارئه، تتمثل عبر نغمات صوته. والمقصود، بنغمات صوته، هو ما اصطلح عليه بعض الشاعريين، فيما بعد،  ب : الإيقاع الشخصي للشاعر حيث كل مكوناته الشعورية، وهي في حالة معينة من التوتر في مخالفتها، بطبيعتها، للمنطق من جهة الكلمات، وطريقة تواردها، والانحرافات الفنية التي تحدثها في مفاصل ومتون القصيدة الشعرية، بالإضافة إلى " الكثير من الحالات النفسية التي لا يمكن التعبير عنها بالإشارة بل بصيغة الأمر أو التعجب، وهذه في الغالب مادة الشعر " (1).

ولأن كلمة : إيقاع شخصي جديدة في الخطاب النقدي العربي المعاصر، من حيث التسمية والاستعمال، فقد رأينا، بالعودة إلى لسان العرب، أنها لا تخرج عن نطاق الموسيقى في علاقتها بالذات المبدعة للإنسان، ف " الإيقاع: من إيقاع اللحن والغناء وهو أن يوقع الألحان ويبينها، وسمى الخليل رحمه الله، كتاباً من كتبه في ذلك المعنى كتاب الإيقاع " (2)، " والشخص : كل جسم له ارتفاع وظهور، والمراد به إثبات الذات فاستعير لها لفظ الشخص" (3). وبرصدنا لها(أي، كلمة الإيقاع الشخصي) عبر تنظيرات الشاعريين المعاصرين، نجد أنها أخذت بعداً مغايراً لما عناه لسان العرب، بتجاوزها لمحدودية دلالتها فيه، الذي كان قد اقتصر على الألحان والغناء فحسب، إلى ما له علاقة بالمتفرد والاستثنائي، عند محمد بنيس، أثناء حديثه عن القصيدة النثرية منطلقاً من العروض الشعري، باعتباره دالا من دوال الإيقاع و" بهذا يكون الوقوف عند الدال العروضي حاجباً لماهو غير عروضي من عناصر الإيقاع. ونفضل الإشارة إلى عناصر وطرائق أخرى لتبصر البناء الإيقاعي في مجمل النصوص، قبل الذهاب إلى المتفرد الذي يستحيل معه التقعيد في النص المفرد، حيث تكون شاعرية النص، أو متن كل شاعر على حدة، مسافرةً باستثنائيتها في المختبر الشعري، وضمن هذا المسعى يمكن أيضاً قراءة " قصيدة النثر" وبنائها للإيقاع الشخصي"(4).

وعند غير محمد بنيس، الذي كان شاملاً، بتحديده للمصطلح إياه، ودقيقاً، وهادفاً إلى مقصودها، أثناء اشتغاله على النص وبناء الإيقاع، وانشغاله بمفهوم الخطاب في علاقته بالإيقاع، وتنظيمه لكل من المعنى والذات في الخطاب (5). محمود درويش يوردها بمعنى الطريقة أثناء مواجهته هو أيضاً، لقصيدة النثر، مقرراً إمكانية إتيانه من الوزن نفسه، حيث يقول، من كلام طويل : " فحتى الإيقاع الداخلي يمكن أن يأتي من الوزن، لم لا. فالإيقاع ليس المسطرة والقاعدة، بل طريقه تنفس الشاعر. خذ مثلاً معلقة امرئ القيس المكتوبة على وزن واحد، البحر الطويل، هذا الوزن فيه إيقاعات كثيرة تتبدل بحسب نفس الشاعر وعبارته، إذن لماذا نعادي الوزن إلى هذا الحد ؟ الوزن هو أداة قياس لا أكثر والإيقاع يمكن أن يتشكل من الوزن نفسه " (6).

مع أنسي الحاج سترد الكلمة بمعنى أساليب، وذلك أثناء حديثه عن الأوزان العربية التقليدية التي كانت قد " وضعت استناداً إلى قصائد كانت موجودة قبل الوصول إلى تقنين الأوزان المعروفة، فكان لكل شاعر عربي إيقاعاته الخاصة التي يكتب قصيدته على أساس منها"(7).

وفي دراسة لكمال أبو ديب في قصيدة محمود درويش ، ترد الكلمة بمعنى أسلوب، مترادفة ومنفردة بمدلولها مع كلمة أخرى هي : لهجة. حيث سيقرر أن درويش قد ابتكر " لنفسه لهجة وإيقاعاً متميزين سأسميهما الآن جنائزيات محمود درويش. إيقاع درويشِ إيقاع شرنقي. إنه لا يترك طرف الخيط أبداً- لاحظ اتصال المقاطع وقافيته هي دائماً من نمط إقفالي أو إغلاقي عود إلى نقطة بدء لتكمل نسج دائرة أو تمسك بخيط بدا فالتاً.درويش لا يترك خيطاً واحداً فالتاً، إيقاع درويش الجنائزي يتألف من حركات بدء والتقاط تكراري للخيط الإيقاعي في نقاط محددة له- إذا سمعت إيقاعاً كالتالي وقرات خمس كلمات ثلاثة منها تكرار لاثنتين تعرف أنك في حضور محمود درويش :

في المساء الأخير سأذهب نحو المدينة،

نحو المدينة أذهب مستعجلاً في المساء الأخير

هناك يلوط الرجال النساء وتأتي النساء يلطن الرجال.

                             فلا يستطعن لأن النساء نساء

                      في المساء سنرحل نحو الطفولة حيث تركنا

                                            الينابيع والخبــز

إن الينابيع تسأل عن خبز أمي (8) "

          وقد تعمدنا إيراد الفقرة، لأبي ديب، كاملة بشاهدها الشعري لمعرفة واحدة من السمات البانية للإيقاع، أو الدالة عليه، كالتكرار مثلما حصل مع درويش، ولكي تتضح حدود وأبعاد مفهوم مصطلح الإيقاع بصفة عامة الذي سيكون " أوسع من العروض ومشتمل عليه (…) ولربما كان الإيقاع هو الدال الأكبر" (9) – حسب ميشونيك،  ولهذا يتجاوز البحر الشعري، كأداة قياس إلى ما لا يعد وما لا يقاس في مشابهته للموجة حيث لا تناظر، ولا تشابه، ولا تماثل خارجاً من الذات. ذات الشاعر، الذي سيعيد بدوره، من جديد، تشكيلها (أي الموجة)، وذلك " وفقاً لصوته الخاص" (10). وهو " بتعبيره عن ذاته يعبر عن عصره كله" (11) في حين أن  " المحك هو كيفية وقعه لديك عندما تقرأه: إذ هو أنت ذاتك متكلماً "(12).

          والذاتية عند بعض الشاعريين هي " العنصر الأساس الذي  يجعل القصيدة عند خلقها تتسم بسمة الأصالة: التي هي مجموع الخصائص الفردية المميزة للأشخاص. إن هذه الأصالة هي التي تطبع بطابع الذات، وهي التي تجعل من كل أثر فني صورة متميزة تحمل روح كاتبها ومزاجه ولفتات ذهنه وقدراته على التعبير، ومدى ما يتصف به من صفات فنية مختلفة (…) من أجل ذلك قال شوبنهاور : الأسلوب هو تقاطيع الذهن وملامحه وهو أكثر صدقاً ودلالةً على الشخصية من ملامح الوجه". ويكون ( أي شوبنهاور) بتعريفه ذلك قصد مجال عمل الذات المبدعة. فما هو الأسلوب ؟

2.1 .  الإيقاع الشخصي كأسلوب

نلخص من كتاب: علم الأسلوب- مبادئه وإجراءاته لصلاح فضل، ما يفيدنا في مثل هذا السياق، عن الأسلوب وارتباطه بالذات المبدعة من جهة أولى، وبأهمية ارتباطه بالأعمال الإبداعية الكبيرة التي تتميز بالقوة والاختلاف من جهة ثانية، " بالإشارة إلى الجذر اللغوي لكلمة أسلوب في اللغات الأوروبية والعربية فقد جاء اشتقاق هذه الكلمة من الأصل اللاتيني Stilus وهو يعني الريشة، ثم انتقل عن طريق المجاز إلى مفهومات تتعلق كلها بطريقة الكتابة (….)، ثم أخذ يطلق على التعبيرات اللغوية الأدبية (…) أما في اللغة العربية فالأسلوب- كما يقول ابن منظور في لسان العرب: " يقال للسطر من النخيل وكل طريق ممتد فهو أسلوب. فالأسلوب الطريق والوجه والمذهب، يقال أنتم في أسلوب سوء… ويجمع أساليب والأسلوب الطريق تأخذ فيه والأسلوب الفن. يقال أخذ فلان في أساليب من القول أي في أفانين منه" (...) وعلى المستوى المفهومي الدلالي للأسلوب في الثقافة العربية نقرأ لابن خلدون الذي يقول في مقدمته عن الأسلوب: " إنه عبارة عن المنوال الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ فيه " (...) وإذا كان الباحثون يجمعون اليوم على أن "الأسلوب" من أهم المقولات التي توحد بين علمي اللغة والأدب وأن دراسته ينبغي أن تتم في المنطقة المشتركة بينهما فثمة إذن، اتفاق ضمني على أن هناك شيئاً يسمى "الأسلوب" لم يخرج عليه سوى جراي الذي قطع بأنه لا وجود له (...) في الوقت الذي سلم أغلب الدارسين بوجوده بالرغم من عدم اتفاقهم على تحديده وتحديد الإطار النظري الذي تتم دراسته في نطاقه فليس هناك تعريف واحد للأسلوب يتمتع بالقدرة الكاملة على الإقناع ولا نظرية يجمع عليها الدارسون في تناوله "(13). من أجل ذلك سنقوم بربط العبارة المشهورة لـ الكونت بيفون، التي تقول : " أما الأسلوب فهو الإنسان نفسه، فالأسلوب إذن لا يمكن أن يزول ولا ينتقل ولا يتغير" (14)، بمقولة شهيرة، هي أيضاً، لمارسيل بروست التي كثيراً ما يستشهد بها، إذ يقول "الأسلوب ليس بأيه حال زينة ولا زخرفاً كما يعتقد بعض الناس كما أنه ليس مسألة تكنيك، إنه مثل اللون في الرسم، إنه خاصية الرؤية تكشف عن العالم الخاص الذي يراه كل منا دون سواه" (15)، وذلك لكي نحدد بالضبط مفهوم مصطلح الإيقاع الشخصي حيث الذات وقد تجسدنت من خلال أثر فني، هو في الأخير "انعكاس الأحداث والتجارب على شخص بعينه، أو هو صدى لانفعال إنسان ما بتجربة ما ومحاولة التعبير عنها بحيث إذا وقعت نفس التجربة لشخص آخر كان الصدى مختلفاً، والتفاعل متبايناً،والنتيجة خلقاً آخر" (16)، وحيث يكون، على نحو إجرائي، "مفارقة أو انحرافاً عن نموذج آخر من القول ينظر إليه على أنه نمط معياري" (17)، أو بتعبير آخر إنه "كل ما ليس شائعاً ولا عادياً ولا مطابقاً للمعيار العام المألوف" (18)، أو هو ما اعتبر " في أغلب الأحيان انزياحاً فردياً، أي طريقة في الكتابة خاصة بواحد من الأدباء" (19)، ولذلك فسيكون مجال عملنا حيث "الطابع الخاص بكل شاعر، أي في الكيفية الخاصة التي تجعله يعرف بين الجميع" (20) ذلك " لأن سمات الشعراء التي تبدو، في قصائدهم وأبياتهم بعضها ظاهر يسهل تتبعه والاستدلال عليه، وبعضها خفي يجري في الكلام مجرى الملامح في الوجوه التي تعرفها، وتعرف بها الأبناء والآباء، ولكنك لا تردها إلى سبب محدود، وليس كل الشعراء ذوي ملامح واضحة يعرفهم بها الشعراء، ففي العربية مثلاً ألوف من الشعراء لا تعد منهم مائة بين أصحاب الملامح الواضحة التي تعرفهم بها في القصيدة الواحدة بله البيت الواحد، (...) بعض هذه الملامح أو العلامات نفسي (...) وبعضه لفظي يرجع إلى الصياغة وأسلوب التعبير والنزعة الفنية التي ينفرد بها الشاعر بين الشعراء وإن تساووا في الإجادة كما ينفرد الجميل بين ذوي الجمال بسمة خاصة تستحب فيه وإن تساووا كلهم في الجمال" (21).

2 .الإيقاع الشخصي عند بعض الشاعريين القدماء

1.2. طرائق عامة

بالعودة، قليلا،ً إلى الوراء، عبر بعض النماذج النقدية القديمة، التي كانت قد حاولت الاستدلال إلى الإيقاع الشخصي عند الشعراء، تتسع الرؤية، بإفضائها عن هم قديم، كان الأقدمون قد عالجوه، عبر محاولات مهمة، في البحث عن التميز والمغايرة بين الشعراء، كبديل جوهري لما عرف في الخطاب القديم بالموازنات والخصومات أو الشرائط البلاغية، في مدى الإغراق في المعاني من عدمه، وإن طغت هذه الوسائل الأخيرة على عموم الخطاب النقدي القديم، فثمة من رأى البحث بغيرها أجدى وأدق، وإن افتقر بعدم ضبطه المصطلح، إلى نجاح شيوع الطريقة مثلما سنرى. فهذا ابن رشيق – على نحو أولي- يستقرئ، في كتابه: "العمدة"، إيقاعات الشعراء في كتابة القصيدة على وجه العموم، في محاولة، منه لتمييز الطرائق لا بين شاعر  وشاعر وحسب، وإنما بين جماعة وجماعة، خصوصاً عندما تعرض لطرائق أهل البادية ، في مقابل طرائق أهل الحاضرة، بموازنة، تقوم على أساس من المعاني، والأماكن، والمضامين، حيث يقول : "  ومن الشعراء من يقطع المصراع الثاني من الأول إذا ابتدأ شعراً، وأكثر ما يقع ذلك في النسيب، فإنه يدل بذلك على وله وشدة حال، كقول أبي الطيب :

جللاً كما بي فليك التبريح

                                  أغذاء ذا الرشأ الأغن الشيح

(...) ومن الشعراء من لا يجعل لكلامه بسطاً من النسيب، بل يهجم على ما يريده مكافحةً، ويتناوله مصافحةً، وذلك عندهم هو: الوثب، والبتر، والقطع، والكسع، والاقتضاب كل ذلك يقال (...) ومن الشعراء من لا يجيد الابتداء، ولا يتكلف له، ثم يجيد في القصيدة، وأكثرهم فعلاً لذلك البحتري (...) وكان أبو تمام فخم الابتداء، له روعة، وعليه أبهة " (22).

وكان ابن سلام الجمحي قد تعرف، من قبل، إلى الإيقاع الشخصي بوصفه- على نحو مركز- للحطيئة من أنه " متين الشعر شرود القافية "(23). والقافية هنا بمعنى القصيدة. أو عند حديثه، على نحو مقارن، عن الشماخ الذي " كان شديد متون الشعر، أشد أسر كلام من لبيد، وفيه كزازة، ولبيد أسهل منه منطقاً "(24).

       ينسحب الكلام نفسه على ابن وكيع مثلاً، الذي لم يتجاوز منوال ابن سلام، أثناء وصفه لإيقاع المتنبي بقوله : " ليس شعره بالصعب، ولا اللين المستضعف، بل هو بين الرقة والجزالة، وفوق التقصير دون الإطالة، كثير الفصول، قليل الفضول " (25).

وهو(أي وصيف ابن وكيع) بالإضافة إلى الشاهدين السابقين، لابن رشيق ، وابن سلام، وصف عام، إذ من الممكن أن ينطبق على غير هؤلاء الشعراء، من حيث - وهذا هو السر-  لا علاقة مباشرة له بالبحث " في المفاصل الدقيقة للصنعة، في الشقوق التي لا يدركها إلا الحرفي"  - حسب جاكوب كورك (26). لذلك سيعمل الشاعريون القدماء على تجاوزه (أي الرصد بصفة عامة (للإيقاعات الشخصية للشعراء)، بالحديث عن الجزئيات الدقيقة في الصنعة، بغية التمييز بين الشعراء من خلال إيقاعاتهم ف "للشعراء ألفاظ معروفة، وأمثلة مألوفة " كما يقول ابن رشيق القيرواني(27) ، الذي لم يكتف برصد إيقاع ابن الرومي من خلال العروض الشعرية، كونه كان " يلتزم حركة ما قبل حرف الروي في المطلق والمقيد في أكثر شعره اقتداراً " (28) فحسب، بل ليعدها، شاهداً، على عظمة الشاعر نفسه.

في كتاب الأغاني سنجد نوعاً آخر من الرصد، فيما يخص التعرف على الإيقاع الشخصي، لا يقل أهمية عما سلف ،كنموذج متقدم. فهذا الطوسي، سيدلنا إلى كلمة مكونة من: "فعل وإسم"، هي المفتاح الرئيس إلى إيقاع السيد الحميري الشخصي، دون أن يقصد ذلك، بقوله " " إذا رأيت في شعر السيد : " دع هذا" فدعه، فإنه لا يأتي بعده إلا سب السلف أو بلية من بلاياه" (29)، لانشغاله (أي الطوسي)  بقضايا مذهبية وسياسية، على الرغم من أهمية الشاهد. وهو الأمر نفسه الذي سيتكرر مع القاضي الجرجاني، أثناء حديثه عن المتنبي بمعيار الضعف والقوة، أو الطبع والتكلف عندما مثل لهذا الأخير (أي التكلف) بتكرار: "ذا " عند المتنبي،أيضاً،  دون أن يفطن إلى أنها سمة أسلوبية، تتعلق، مميزة، إيقاع المتنبي الشخصي. يقول الجرجاني : " وهو أكثر الشعراء استعمالاً لذا التي هي للإشارة، وهي ضعيفة في صنعة الشعر، دالة على التكلف، وربما وافقت موضعاً يليق بها، فاكتست قبولاً "(30).

          ويبدو- من خلال ما مر، من الشواهد- أن مسألة الإيقاع الشخصي كأسلوب، لم تكن قد تبلورت بعد،  كمعيار للمغايرة والتميز، وإن كان ثمة إشارات مبثوثة هنا وهناك،- وجدناها-  لكنها مهملة نتيجة، ربما، لانشغال الشاعريين بقضايا فنية أخرى، لم يحسم فيها الجدال، وقتئذ، وليس هنا مكانها، حتى جاء عبد القاهر الجرجاني الذي تعرف إلى الإيقاع، عبر مفهومه للنظم، في توخي معاني النحو. ومن بعده، سيأتي حازم القرطاجني، ليبني على ما كان قد طرحه الجرجاني بهذا الخصوص، مطلقاً تسميته الصريحة له بالأسلوب، بدلاً من النظم، وإن كان عبد القاهر الجرجاني قد أشار إلى تلك التسمية بعينها في كتابه " دلائل الإعجاز" تحديدا، وذلك أثناء حديثه عــن الاحتذاء عند الشعراء (31).

2.2. ابن رشيق ومحاولة استقصاء الإيقاع الشخصي

1.2.2 المتنبي نموذجا

بعيداً عن التسمية التي لم تكن بشاغلة ذهن ابن رشيق أثناء رصده لإيقاع المتنبي، باعتبارها لاحقة على الهدف الذي كان قد توخاه ابن رشيق نفسه  من التفريق بين الشعراء عبر ما عبر عنه، بقوله السابق : " للشعراء ألفاظ معروفـة، وأمثلة مألوفة "(32)، فقد ضرب لذلك عدة نماذج نموذجية، لعل أهمها ما كان قد خصه  تجربة المتنبي، لا من خلال أكثر من دال إيقاعي، يكون في مجمله وعند البناء عليه قياساً، ما يمكن أن يكون منهجاً لرصد تجارب شعرية أخرى، شريطة أن تبلغ مرتبة النموذج  للشعراء المهمين عبر العصور، وذلك أثناء التطبيق. بالعودة إلى ابن رشيق الذي سيرتكز على مسألة التكرار، أثناء رصده بعض الظواهر الأسلوبية  في تجربة المتنبي، كظاهرة الترديد " وهو أن يأتي الشاعر بلفظة متعلقة بمعنى، ثم يردها بعينها متعلقة بمعنى آخر في البيت نفسه أو في قسم منه. وسمع أبو الطيب باستحسان هذا النوع، فجعله نصب عينه حتى مقته، وزهد فيه، ولو لم يكن إلا بقوله: فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا، قلاقل عيسى كلهن قلاقل" (33). وهو ( أي الترديد) قريب من ظاهرة التصدير في رد " أعجاز الكلام على صدوره فيدل بعضه على بعض" (34). هذا الأخير كان قد أخذ من المتنبي كل مأخذ، إعجاباً وافتتاناً، حتى صار- حسب ابن رشيق، من أسس إيقاعه الشخصي، بالإضافة إلى ظاهرة "الغلو" (35) الذي كثر عند أبي تمام من قبل، واستبد بتجربة المتنبي، فيما بعد، على نحو صارخ.

من جانب مغاير تماماً، سيضيء ابن رشيق، لأول مرة الطريق إلى اكتشاف إيقاع المتنبي من خلال الكلمات. مثل "الخيل". يقول ابن رشيق " وقد ذكر أبو الطيب الخيل أيضاً في كثير من شعره، وكان يؤثرها على الإبل لما يقوم في نفسه من التهيب بذكر الخيل وتعاطي الشجاعة " (36).

فكلمة الخيل عند المتبي، لم تعد  مجرد كلمة يراد بها البناء للإيقاع الشخصي، على نحو تفضيلي، بإيثاره إياها، على كلمة الإبل وحسب، وإنما أصبحت، بالإضافة إلى كونها شاهداً على تفرد الشاعر، بإيقاع شخصي يميزه دون الشعراء، رمزاً حياً ليس في بناء الصورة الفنية فقط، بل والخطاب الشعري بدلالاته المتعددة في المكان والزمان. وبذلك يكون ابن رشيق قد سجل بمحاولته للاستدلال إلى إيقاع الشاعر، عن طريق المفردات، لحظة نقدية متميزة، وعلى نحو سابق.

حازم القرطاجني- لكي تكتمل الصورة- سينظر إلى تجربة المتنبي، مستدلاً، على إيقاعه الشخصي، عن طريق ما سماه ب "الإقناع"، كأسلوب، لا على سبيل الخصوصية في تجربة المتنبي، بل من منطلق الإكثار والتجويد معاً، إزاء الشعراء الآخرين، الأمر الذي لا يمنح حازم القرطاجني الحق في اعتبار ذلك ظاهرة من ظواهر إيقاع المتنبي الشخصي فحسب، بل والامتياز ـ كناقد فذ ـ دون الشاعريين.

و ذلك حين دعا إلى اعتماده مذهباً يقلد ويتبع، يقول حازم : " من الشعراء من يجعل أكثر أبياته وما تتضمنه الفصول بالجملة مخيلة ولا يستعمل الإقناع إلا في القليل منها، ومنهم من يستعمل الإقناع في كثير من الأبيات التي تتضمنها فصول القصيدة. وقد كان أبو الطيب يعتمد هذا كثيراً ويحسن وضع البيت الإقناعي من الأبيات المخيلة لأنه كان يصدر الفصول بالأبيات المخيلة ثم يختمها ببيت إقناعي يعضد به ما قدم من التخيل، ويجم النفوس لاستقبال الأبيات المخيلة في الفصل التالي، فكان لكلامه أحسن موقع في النفوس بذلك. ويجب أن يعتمد مذهب أبي الطيب في ذلك، فإنه حسن " (37).

ولم يفت حازم القرطاجني الإشارة، من حيث السبق، إلى زهير بن أبي سلمى تحديداً. وهو، بهذه الإشارة، يكشف عن سر من أسرار الشاعر الكبير في كل العصور  فقد فطن، دون غيره، إلى باب من أبواب الإبداع لم يكن للقليل جداً، ممن طرقه، على عجل، أن يتخيل مدى أهميته، كاستثناء، يمنح طارقه صفة الاختلاف التي لم ينلها سوى القليل  من الشعراء  أمثال:  زهير بن أبي سلمى أو المتنبي الذي كان قد " جاء في المولدين فولع بهذا الفن من الصنعة وأخذ خاطره به حتى برز في ذلك وجلى وصار كلامه في ذلك منتمياً إلى الطراز الأعلى " (38)- حسب حازم في المسألة نفسها.

وهو الأمر نفسه، الذي كان قد أشار إليه القاضي الجرجاني، بشأن أبي تمام، فيما يخص البديع بعد محاولته الاقتداء بالأوائل في كثير من ألفاظه حتى "أضاف إليه في طلب البديع، فتحمله من كل وجه، وتوصل إليه بكل سبب" (39). علما أن القاضي الجرجاني كان قد ساق هذا الإمتياز، على سبيل التعريض بتجربة أبي تمام، على الرغم من أهمية ذلك  الفتح الشعري لأبي تمام، والذي منحه صفة الاختلاف، بامتياز. ونحن نسوقه، هنا، تعزيزاً لإشارة حازم السالفة في كشفها سرا من أسرار المتنبي. تبقى ملاحظة،  لا بد من ذكرها في هذا السياق، تتلخص في الإشارة إلى أنه لم يكن في ذهن حازم القرطاجني، أثناء رصده لإيقاع المتنبي، من خلال تذييله أواخر الفصول بالأبيات الحكمية والاستدلالية، أن يرد على عبد القاهر الجرجاني ، الذي كان قد نظر إلى ما عده حازم، فيما بعد،  على أنه أسلوب مميز، وطريقة في القول خصوصية (من خلال مقياسيه: الحقيقة والمجاز)، على أنه ليس من الشعر في شيء (40).

والسبب، في رأيي، يعود إلى اختلاف انشغال الناقدين كليهما. فالأول ( أي الجرجاني ) كان منشغلاً بالشاعرية، بينما  كان  القرطاجني معنياً بالبحث عن التميز،  من خلال رصده لظاهرة أسلوبية ، في تجربة الشاعر.

سنتطرق إلى مناقشة هذه المسألة بشيء من التفصيل في مكان آخر، إذ ما  يهمنا الآن، على الأقل، هو عرض أهم  وسائل الشاعريين القدماء، من خلال النماذج الشعرية لشعراء بعينهم، والتي كانوا قد قصدوا بها،  لا تمييز إيقاع هذا الشاعر عن ذاك فحسب، بل والحكم نقدياً على تجربة القصيدة للشاعر، من حيث الفرادة والمغايرة.

2.2.2  المكان كدال إيقاعي

          من منطقة مغايرة، سيتعرف الشاعريون القدماء إلى الإيقاع الشخصي بصفة عامة، من خلال إيلائهم المكان أهمية، كدال  من دواله، وعنصر مهم  من عناصر متعددة في بنائه.

فالشعر، من ناحية، لم يعد لهذا الاعتبار، والبحث فيه، مقتصراً، على ما كان قد خص به الآمدي تجربة البحتري، كمزايا، مثلا، ب "حسن التأتي، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله، وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وغير منافرة لمعناه، فإن الكلام لا يكتسي البهاء والرونق إلا إذا كان بهذا الوصف، وتلك طريقة البحتري " (41)، أو ما شابه ذلك، مما كان قد توسع في درسه النقاد القدامى،  على الرغم من أهمية ذلك، بل صار  معرفة في الزمان والمكان " لما فيه من الألفاظ الغريبة، واللغات المختلفة، والكلام الوحشي، وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه" (42)- على حد ابن قتيبة.  نقول إن البحث في هذه الثنائية (الزمكان) سيتخذ منحى آخر، عبر جماليات، أثرت الرؤية النقدية عند الشاعريين،  بمنحها، إياهم،  صفة الاختلاف عند تناولهم الشعر من خلال مفهوم ما اصطلح عليه بجماليات المكان في الشعرية العربية المعاصرة، فيما بعد، ليس هنا مكانه، إذ يهمنا، الآن، الإشارة إلى أن المكان كان يعد مع ابن قتيبة وغيره من النقاد، لا عنصراً من عناصر بناء القصيدة الشعرية عند الشاعر إيقاعيا وحسب، بل دالاً، بالإضافة إلى غيره من الدوال، يميزه عن بقية الشعراء. يقول ابن قتيبة :  " فإنك لا تفصل في شعر الهذليين إذا أنت لم تسمعه بين شاية وساية وهما موضعان، ولا تشق بمعرفتك في حزم ينابع، وعروان الكراث، وشس عبقر، وأسد حلية، وأسد ترج، ودفاق، وتضارع، وأشباه هذا " (43).

وغير ذلك، فقد رأى النقاد القدامى، بحثاً، عن الإيقاع الشخصي، من خلال المواضيع، أو ما يمكن أن نسميه بالفضاءات. فكلما أكثر الشاعر من الدوران في فضاء بعينه، يصبح على نحو ما من السمات العامة، التي تدل على شخصيته "كأبي نواس في الخمر، وأبي تمام في التصنيع، والبحتري في الطيف، وابن المعتز في التشبيه، وديك الجن في المراثي، والصنوبري في ذكر النور والطير، وأبي الطيب في الأمثال وذم الزمان وأهله" (44)، وهو ما كان قد وصفه حازم القرطاجني، تسميةً، بالمنـزع، كامتياز "بأن يوثر في شعره أبداً الميل إلى جهة لا يوثر الناس الميل إليها ولم يأخذوا فيها مأخذه فيتميز شعره بهذا عن شعرهم"(45).

وفي موضع آخر، سيوضح القرطاجني نفسه،أكثر ، بالأمثلة، معنى ذلك، وإن لم يخرج عن ابن رشيق في إحالة الفضاءات على الشعراء أنفسهم، حيث يقول : " وللشعراء مذاهب في ما يعتمدون إيقاعه في الجهات التي يعتمدون فيها القول من الأنحاء المستحسنة في الكلام كالأوصاف والتشبيهات والحكم والتواريخ. فقل ما يشذ من مستحسن الكلام عن هذه الأنحاء الأربعة شيء. فمنهم من تشتد عنايته بالأوصاف كالبحتري، وبالتشبيه كابن المعتز، وبالأمثال كالمتنبي، وبالتواريخ كابن دراج القسطلي، ومنهم من يتوفر قسطه من جميع ذلك كأبي تمام، وإن كان غيره أشف منه في التشبيه والحكم، ولابن الرومي في الإحاطة بالأوصاف والتشبيهات المجال المتسع، وابن دراج أيضاً في الأوصاف والتشبيهات متسع المجال " (46).

والواضح، من خلال هذين الشاهدين، أن ثمة ما يمكن أن نسميه بالتسليم، إزاء بعض التجارب الشعرية الكبيرة، من حيث الحيازة والشيوع، على وجه التخصص لبعض الفضاءات، كالأمثال عند المتنبي، أو الخمر لأبي نواس انطلاقاً من الكثرة كمقياس ف" من أكثر من شيء عرف به" (47) كما قال ابن رشيق.







(1) – س.م. بورا، التجربة الخلاقة، تر: سلافة حجازي، دار الشؤون  الثقافية، بغداد، ط2، 1986، ص 31.

(2) – ابن منظور، لسان العرب، المجلد الثامن، دار النشر (بدون)، ص 408.

(3) – المرجع نفسه، المجلد السابع،ص 46.

(4) – محمد بنيس، الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها ( الشعر المعاصر)، الجــزء 3، توبقال، البيضاء، ط3، 2001، ص، 107.

(5) – أنظر محمد بنيس، الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها (الشعر المعاصر)، الجزء 3، توبقـال، البيضاء،ط3،2001، ص 107.

(6) – محمود درويش، مقابلة أجراها معه شامر أبو هواش بمجلة نزوى، العدد 29،يناير 2002، مسقط- عمان،ص 45.

(7) – أنسي الحاج، مقابلة أجراها نوري الجراح تحت عنوان : شهادة أنسي الحاج بمجلة نزوى، العدد 29 يناير 2002 مسقط- عمان.

(8) – كمال أبو ديب، جماليات التجاوز أو تشابك الفضاءات الإبداعية، دار العلم للملايين، ط1، 1997، بيروت،ص 83.

(9) – محمد بنيس، الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها (الشعر المعاصر)،(م.س) ص 107.

(10) – ت.س. أليوت، الشعر بين نقاد ثلاثة، تر: منح خوري،  دار الثقافة، بيروت،ط (بدون)، 1966،ص49.

(11) – نفسه، ص  39.



(12) – نفسه، ص 39.

(13) – أنظر صلاح فضل، علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، دار الآفاق الجديدة،بيروت، طI ، 1985، بيروت، ص 81-83.

(14) - نفسه، ص 84.

(15) – نفسه، ص 85.

(16) – محمد زكي العشماوي، قضايا النقد الأدبي بين القديم والحديث، دار الشروق، بيروت، طI، 1994، ص 15.

(17) – سعد مصلوح، الأسلوب دراسة لغوية إحصائية، دار البحوث، ط I، 1980، ص 27.

(18) – جون كوهن: بنية اللغة الشعرية،تر: محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال، البيضاء،طI، 1986، ص 15-16.

(19) – نفسه، ص 15-16.

(20) – نفسه، ص 15-16.

(21) – عباس العقاد، ابن الرومي، حياته في شعره، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان،طI، 1986، ص 325-32

(22) – ابن رشيق، العمدة، تحقيق محمد قرقزان، الجزء I، مطبعة الكاتب بدمشق،طII، 1994، ص 393-406-407.

(23) – ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، قراءة وتعليق محمود محمد شاكر، السفر الأول، مطبعة المدني، القاهرة، طI، سنة (بدون)، ص87.

(24) – نفسه، ص 110.

(25) – ابن وكيع، المنصف للسارق والمسروق منه في إظهار سرقات المتنبي، تحقيق محمد يوسف نجم، دار صادر، بيروت، طI، 1992، ص5

(26) – جاكوب كورك، اللغة في الأدب الحديث، الحداثة والتجريب، ترليون يوسف وعزيز عمانوئيل، دار المأمون، بغداد- العـراق، طI، 1989، ص 5.

(27) – ابن رشيق، العمدة،(م.س)، ص 257.

(28) – نفسه، ص 299.

(29) – أبو الفرج الأصبهاني، الأغاني، الجزء 7، دار الثقافة، بيروت،الجزء 7،  ط I، 1955، ص 275.



(30) ـ القاضي الجرجاني (غلي بن عبد العزيز)، الوساطة، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم وعلي محمد البحاوي، المكتبة العصرية، بيروت، طI، سنة (بدون)،ص95.

(31) – أنظر عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، قراءة وتعليق محمود محمد شاكر،  مطبعة المدني بالقاهرة- دار المـدني بجدة،ط3، 1992، ص 468-469.

(32) – ابن رشيق، العمدة، (م.س)، ص 257.

(33) – نفسه، ص 566-571.

(34) – نفسه، ص: 572.

(35) – نفسه، ص 572.

(36) – نفسه ص 403.

(37) –  حازم القرطاجني، منهاج البلغاء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط3، 1986، ص 293.

(38) – نفسه، ص 301.

(39) – القاضي الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه،(م.س)،  ص 19.

(40)  - أنظر عبد القاهر الجرجاني أسرار البلاغة، قرأه، وعلق عليه، محمود محمد شاكر ،دار المدني بجـدة، طI، 1991، ص 263-265.         



(41)  - الآمدي، الموازنة،(م.س)  ص 380.

(42) – ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار إحياء الكتب العربية الجزء I، سنة 1364 هـ ، ص 88-89.

(43) - نفسه، ص 89.

(44) – ابن رشيق، العمدة، (م.س) ص 487-488.

(45) – حازم القرطاجني، المنهاج،(م.س)،  ص 366.

(46) – نفسه، ص 220.

(47) – ابن رشيق، العمدة، ص 487-488.









الفصل الثالث

الشاعرية (اللاإسلوب)



1. الممكن العام في قصيدة التجربة

1.1. القصيدية

يجمع الشاعريون على أن الصفة المميزة للشعر الحقيقي تتمثل في تلك القدرة على توليد إحساس فوري في نفس القارئ، شريطة أن يكون لديه "تمرس كاف بالشعر الحقيقي يهذب ملحوظاته ويخلصها من الفساد" (1).

والسبب في ذلك، برأي أليوت، يعود إلى أن الشعر الحقيقي " يتبلور ويتكون في الروح"(2)، في مقابل وجود نوع آخر من الشعر يتبلور ويتكون، أيضاً، في عقول الشعراء "ولا شك أن الفرق بين النوعين من الشعر عظيم " (3)، أثناء ما كان يقارن ( أي أليوت) بين الشعر، كما يتصوره هو، وبين شعر كل من دريدان وبوب وبقية أفراد مدرستهم.

" وقد صار الشعر أكثر شاعرية مع تقدمه في التاريخ " (4)، ذلك ما يراه جون كوهن، الذي يقرر أن "الشعر يسير نحو الشاعرية الخالصة مثلما يتقدم الرسم عبر الفن المجرد من فن الرسم الخالص(...)، فكل فن ميال إلى الرجوع إلى أصله بطريقة من الطرق، باقترابه المتزايد من شكله الخاص الخالص (5).

لكن ما حقيقة مفهوم مصطلح الشاعرية بصفة عامة في الشعر؟.

يرى عبد الإله الصائغ، معرفاً، الشاعرية بأنها : " بؤرة الجمال في النص، أو المسمع، أو الملمس فالشاعرية هي السحر الحلال الذي يحيل الكلام الاعتيادي استثنائياً، والهم المألوف جديداً، فهي توحد بيننا، وبين النص، حتى كأننا نقرأ النص منتجوه، ونحن نشهد المنظر صانعوه، وكل شعر محروم منها افتقد سيماء جنسه وحل في النثرية وإن قالت بشرته أو بنيته الخارجية غير ذلك"(6).

عبد القاهر الجرجاني يرى أن الشاعرية هي غير حلاوة الألفاظ، أو ما له علاقة خارجية بأجراس الحروف، وظاهر الوضع اللغوي، على الرغم من أهمية توفر القصيدة على ذلك، من حيث انه قد حدها بذلك الأمر الذي"يقع من المرء في فؤاده" (7) كلما انتهى من قراءة شعر حقيقي.

 ولقد تعرف الشاعريون القدامى إلى وجودها، فعبروا عنها بطرق تكاد تكون متطابقة. لعل أهم ما نثبته هنا، بهذا الشأن، الروايات التالية التي لا تحتاج منا إلى تعليق، بقدر الحاجة إلى تأملها والبناء على إيحاءاتها، أثناء التطبيق، علما، أنها لا تقتصر على شعر دون شعر، أو على جنس أدبي دون جنس آخر ، كونها تتوهج في كل عمل إبداعي يحمل، بوجودها، منتشرة، فيه، صفة الامتياز. وليس أدل على ذلك إلا تعريف توفيق الحكيم كمثل على تواجدها في جنس آخر غير الشعر، كالمسرح مثلاً، من أنها " بمثابة انبعاث شيء غير مرئي ولا ملموس يحدث بمجرد انبعاثه تأثيراً غير مفهوم في نفسك، ولكنك تشعر به بعده كما لو كانت أشعة لا ترى قد كشفت لك عن عالم مجهول. فالشاعرية إذن هي عملية كشف عن عالم مجهول والقيمة الأدبية تأتي من هنا من أن هذا الكشف الشاعري قد أضاف أبعاداً غير متوقعة للبعد المادي المتوقع والمنظور"(8).

نعود إلى القدماء، ففي كتاب العمدة نقرأ رواية ابن المعتز من أنه " قيل لمعتوه: ما أحسن الشعر؟ قال : ما لم يحجبه عن القلب شيء"(9).

وفي تعليق العتبي- حسب رواية الأصفهاني- على بيتي السيد الحميري حيث يقول : " هذا والله الشعر الذي يهجم على القلب بلا حجاب"(10)، نجد المعنى نفسه المتجسد في ذلك الشعور المتعلق بالنفس، أو ما عبر عنه بالقلب دون مبررات، إذ ليس " للجودة في الشعر صفة إنما هو شيء يقع في النفس عند المميز: كالفرند في السيف والملاحة في الوجه" (11)، وهو تحديد للشاعرية دقيق، يلتقي فيه ابن رشيق بروايته مع الجرجاني الذي أرجع الإحساس بها، تذوقاً، إلى شخصية القارئ. فإذا كان الأول بصيراً بجواهر الكلام (12)، فإن الثاني، مع ابن رشيق، لا بد أن يحمل الصفة نفسها، أي بما كان قد عبر عنه بقوله : عند المميز (13).

وعليه، فالشاعرية هي ذلك    " الإحساس الجمالي الخاص الناتج عادةً عن القصيدة" (14)، والذي سيكون محله "العاطفة" (15)، أو ما عبر عنه، جون كوهن نفسه، ب "الانفعال الشعري" (16) لدى القارئ، في ربطه ( أي جون كوهن) لها بالدلالة. فلكي تحقق القصيدة شاعريتها " ينبغي أن تكون دلالتها مفقودة أولاً، ثم يتم العثور عليها، وذلك كله في وعي القارئ " (17).

وللشاعرية علامات، يشعر بها القارئ، كلما فرغ من قراءة قصيدة جميلة مثلاً، أو بمعنى ماكان قد عبر عنه هكسلي بقوله : " إن أحد ردود الفعل الطبيعية التي تعترينا عقب قراءتنا لمقطوعة جيدة في الأدب يمكن أن يعبر عنه بالمسلمة الآتية : " هذا هو ما كنت أشعر به وأفكر فيه دائماً، ولكنني لم أكن قادراً على أن أصوغ هذا الإحساس في كلمات حتى ولا لنفسي" (18).في هذا المعنى، كان قد قال ابن قتيبة : " أسير الشعر والكلام المطمع، يراد الذي يطمع في مثله من سمعه، وهو مكان النجم من يد المتناول" (3).أو ما أخبر به الصولي- في كتاب الصناعتين لابن هلال العسكري- من أن أحمد بن إسماعيل قال : وصف الفضل بن عمرو بن مسعدة فقال : " هو أبلغ الناس، ومن بلاغته أن كل أحد يظن أنه يكتب مثل كتبه، فإذا رامها تعذرت عليه" (19).

وغير ذلك، يورد ابن رشيق القيرواني الكثير مما يمكن إدراجه ضمن  هذه المعاني، بخصوص الشاعرية، كأن نجد من يقول : " أشعر الناس من أنت في شعره" (20)، أو بمعنى ما كان قد جاء في شكل سؤال وجواب، فقد "سئل بعض أهل الأدب: من أشعر الناس؟ فقال : من أكرهك شعره على هجوك ذويك، ومدح أعاديك. يريد الذي تستحسنه، فتحفظ منه ما فيه عليك وصمة وخلاف الشهوة " (21)، وهو  بصدد المفهوم العام للشاعرية، على كثرة تعدده إلا أنه يشي بالمعنى نفسه.

2.1. مأتى الشاعرية (القصيدية) عند القدماء

1.2.1. الجرجاني:  تمازج اللفظ بالمحتوى

يرى عبد القاهر الجرجاني أن الشاعرية قد لا تتحقق " بضم الكلام بعضه إلى بعض، سبيل من عمد إلى لآل، فخرطها في سلك لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرق، وكمن نضد أشياء بعضها على بعض، لا يريد في نضده ذلك، أن تجيء له منه هيئة أو صورة (...)، فما كان من هذا وشبهه لم يجب به فضل إذا وجب" (22)، وإنما بما عده ثالثاً، وهو الذي جمع الحسن من الجهتين- على حد قوله، والمقصود بهما : النظم والتأليف في علاقتهما اتحاداً باللفظ، حيث يقول- وقد فرق بين ثلاثة أنواع من الكلام- : " وجملة الأمر أن هاهنا كلاماً حسنه للفظ دون النظم، وآخر حسنه للنظم دون اللفظ، وثالثاً قرى الحسن من الجهتين، ووجبت له المزية بكلا الأمرين" (23)، فإذا كان النظم سوياً " والتأليف مستقيماً، كان وصول المعنى إلى قلبك، تلو وصـول اللفظ إلى سمعك"(24).

ذلك مأتى الشاعرية عند عبد القاهر الجرجاني الذي لم يخرج عن نظريته: (نظرية النظم) في توخي معاني النحو، سواء تجسد ذلك في تجانس التأليف، لفظا،ً مع المعنى، أو انسجام، امتزاجاً، اللفظ مع المعنى، كشرط لانبثاق الشاعرية، أو أنه السبب في انبثاقها الأكيد. فإذا اختل ذلك الشرط "وصل اللفظ إلى السمع، وبقيت في المعنى تطلبه وتتعب فيه، وإذا أفرط الأمر في ذلك صار إلى التعقيد الذي قالوا : إنه يستهلك المعنى" (25).

مع الرماني، نتعرف إلى مأتى الشاعرية،  من خلال تعريفه للبلاغة، على أنها، كأقرب مثال : " إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ" (26).وهو تعريف لا يخرج عما يطرحه الجرجاني، أو ما رآه المبرد في أن مجمل استحسان الأقدمين إلى الشعر يعود " لصحة معناه وجزالة لفظه" (27)، مقتصراً إياهما على مفهوم مصطلح الشاعرية، وإن كان لم يشر إلى ذلك بصراحة. وتكاد تدور الشعرية العربية كلها حول الشاعرية،  من حيث مأتاها المتحقق، ليس بجودة الثنائي : اللفظ والمعنى فحسب، بل وتلبسهما ببعضهما البعض، مما يستحيل فصلهما، أو قيام واحد منهما بنفسه دون الآخر.

          2.2.1. ابن رشيق والوحدة العضوية

مع ابن رشيق، يصبح مأتى الشاعرية مغايراً هذه المرة، ونستطيع بذلك أن نتقدم، قليلاً، في التعميد على الشرط الثاني من شروط تحققها (أي الشاعرية)، في ما يسمى بالوحدة العضوية، عندما يقرر أن أجود أنواع الشعر : " ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه أفرغ إفراغاً واحداً، وسبك سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان" (28).

وهو نفسه ما ارتآه ابن شهيد، حين نظر إلى القطعة الفنية، فقرر أن روعتها تعود إلى ما تتمتع به من " قوة الانصباب" (29)، علاوة  على تمتعها بالانسجام التام، بين الفكرة والشكل، في مزيج خفي (30).

          3.2.1. المرزوقي في عمود الشعر العربي

لعل نظرية  عمود الشعر،  التي كان قد تقدم بها المرزوقي، في مقدمته لشرح ديوان الحماسة لأبي تمام، هي الأنضج، بهذا الصدد، لاحتوائها، بالإضافة إلى الأسس العريضة للشاعرية، على الجزئيات، التي  بها يكتمل معمار القصيدة الشعرية عبر العصور، من حيث لخصها بقوله: " إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته والإصابة في الوصف (...) والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما- فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر، ولكل باب منها معيار (...) فمن لزمها بحقها وبنى شعره عليها، فهو عندهم المفلق المعظم، والمحسن المقدم " (31). ونستطيع بدورنا حصرها في الثلاث النقاط التالية:

1- مشاكلة اللفظ للمعنى

2- الوحدة العضوية.

3- حلاوة الإيقاع الكلي ومنه العروض الشعري في القصيدة.

والبقية تأتي، تبعاً، لهذه الأسس الثلاثة.

          1.3.1. تجديد مفهوم المصطلح

 الملاحظ، تأملاً واستقراءً، أن بعض الشعراء لا يستطيعون تحقيق أسلوب شخصي لهم يتميزون به، دون بقية الشعراء، لذلك لا تتوفر قصائدهم إلا على بعض الجماليات التي تحقق لقصائدهم صفة الشاعرية فحسب، ولعل أنسب ما يمكن أن ينطبق على مثل هذه القصائد، هو رأي جولدمان الذي كان قد قسم الأسلوب إلى ثلاثة أقسام مركزاً " على أناشيد ميلتون التي ليس لها أسلوب فهي أقوال محتدمة وملتزمة بشكل شخصي" (32) حين رأى أن " هناك أسلوب على ثلاث وجهات إحداها- وهي التي تنطبق على ميلتون تشير إلى أن قولاً قديراً قد يبدو محايداً من الناحية الفنية لصالح ما فيه من فكر وشعور في الوقت الذي يعد فيه هذا الحياد نفسه تعبيراً عن موقف والوجهة الثانية أن تكون الكتابة غير أدبية، إذ لا يستطيع المؤلف أن يقيم علاقة بينه وبين قوله مطلقاً وهنا لا يكون ثمة أسلوب، أما الوجهة الثالثة فهي تنطبق على الشعر السيئ حيث يصبح الحرمان من الأسلوب في واقع الأمر نتيجة لاختلاط أساليب عديدة. وطبقاً لهذا المفهوم فإن الأسلوب به قيمة مستقلة عن المضمون وهو قاصر بطبيعة الحال على الشكل اللغوي ويمد القارئ بلذة مستقلة مختلفة تماماً عن أهمية المادة المعالجة في القول"(33)، وهو ما يمكن أن يسري على نتاج أغلب الشعراء الذين لم يستطيعوا إيجاد طريقة، لهم، متميزة في القول الشعري طبعاً، ينفردون بها ويتبعون. وإن كان ثمة من أساليب، فهي أساليب عامة لا خاصة، يشترك في الإفادة منها الجميع، مثلما حدث مع مدرسة "أبولو" مثلاً، مع وجود الاستثناءات: كالبشابي من تونس، أو الديوان في مصر، أو ما انطوى تحت مظلة المدرسة النواسية، أو كأنما يشتهر الشاعر بقصيدة واحدة، وهكذا إلا إن  أهم ما يميز معظم هذه التجارب، هو قدرتها على إحداث ما سماه لونجينوس "بالهزة" EKSTASIS التي حاول أن يضع لها إسماً مرادفاً هو الروعة التي تتأتى عبر خمسة مصادر. الأولين، منها، يعودان إلى ذات الشاعر، وقدراته النفسية، مثل القدرة على تكوين فكرة عظيمة، والعاطفة الجياشة. وأما الثلاثة المتبقية فهي المتمثلة في النقاط التالية :

1- استخدام ضروب المجاز.

2- استخدام الألفاظ الرفيعة.

3- التأليف السامي الجليل (34). وهو ما كان قد عبر عنه الجرجاني فيما سلف.











(1) - ديفد ديتشس، مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق،(م.س)، ص 152.

(2) – ت.س أليوت، فائدة الشعر وفائدة النقد،(م.س)،  ص 116.

(3) – المرجع نفسه، الصفحة ذاتها.

(4) – جون كوهن، بنية اللغة الشعرية، (م.س)، ص 22.

(5) – المرجع نفسه، ص 22.

(6) – عبد الإله الصائغ، النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير، مركز عبادي- صنعاء، ط1، 2000، ص 46.

(7) – عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، تحقيق محمد الفاضلي،  المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ط2، 1999، ص 9.

(8) – سامي منير عامر، المسرح المصري بعد الحرب الثانية، الناشر (بدون)، ط (بدون) 1979، ص 191).

(9) – ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، تحقيق : محمد قرقزان، مطبعة الكاتب العربي- دمشق، الجزء I، ط1، 1994، ص 252.

(10) –الأصبهاني، الأغاني، دار الثقافة، بيروت، المجلد II، ط1، 1955، ص 267.

(11) – ابن رشيق، العمدة، (م.س)، ص 252.

(12) – عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، تحقيق محمد الفاضلي، (م.س)، ص 9.

(13) – ابن رشيق، العمدة، (م.س)، ص 252.

(14) – جون كوهن، بنية اللغة الشعرية،_م.س) ص 9.

(15) – المرجع نفسه، ص 9.

(16) – المرجع نفسه، ص 9.

(17) – المرجع نفسه، ص 173.

(18) – محمد زكي العشماوي، قضايا النقد الأدبي، دار الشروق، بيروت- لبنان، طI، سنة (  1994) ،ص 17.

(3) – ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار إحياء الكتب العربية- القاهرة، ط1، الجزء I، سنة 1364 هـ، ص 109.

(19) – أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين، تحقيق علي محمد البجاوي، محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، صيدا- بيروت، ط1، 1986، ص 61.

(20) – ابن رشيق القيرواني، العمدة، تحقيق محمد قرقزان، (م.س)، ص 197.

(21) – نفسه، ص 197.

(22) – عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، تحقيق الأيوبي،(م.س)،  ص 140-141.

(23) – نفسه، ص 143.

(24) – نفسه، ص 271.

(25) – نفسه، ص 271.

(26) – إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الشروق، عمان- الأردن، ط 2، 1993، ص 332.

(27) – المبرد، الكامل في اللغة والأدب، تحقيق مكتبة المعارف- بيروت، نشر مكتبة المعارف، بيروت- لبنان، ط1، سنة (بدون)، ص 28.

(28) – ابن رشيق، العمدة، تحقيق محمد قرقزان،(م.س)، ص 414.

(29) –إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب،(م.س)،  ص 487-488.

(30) – نفسه، ص 487-488.

(31) – المرزوقي، شرح ديوان الحماسة، نشره أحمد أمين وعبد السلام هارون، دار الجيل- بيروت، المجلد الأول، ط1، 1991، ص 9-11.

(32) – أنظر صلاح فضل، علم الأسلوب، مبادئه وإجراءاته، دار الآفاق الجديدة، بيروت- لبنان، ط1، 1985، ص 88.

(33) – نفسه، ص 88.

(34) – أنظر إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب،(م.س)، ص 331.







الفصل الرابع

الصياغة النهائية





1. لا جديد تحت الشمس

          1.1. عبد القادر الجرجاني يهدم تجربة المتنبي

من البديهي أن القصيدة الشعرية لا تكتمل من حيث البناء كقصيدة،  إلا بعد مرورها بمراحل عديدة، لعل أهمها، ما يمكن أن يطلق عليه بالصياغة الأولى كمرحلة، ثم إعادة الصياغة كمرحلة ثانية سواء فيما يخص القصيدة نفسها، أو لكل إبداع سابق، من حيث الزمن، على وجه ما كان قد عبر عنه عنترة العبسي، بقوله :

ما أرانا نقول إلا قديماً                    مستعاداً من لفظنا مكروراً (1)

" فالقدماء لم يكونوا يدعون الابتكار، إنما " المبدع" منهم من يتجاوز النقل والتجميع إلى إعادة التصنيف، وبدون إعادة الصياغة لا يمكن القيام بمزيد من التحليل"(2)- على حد محمد عابد الجابري، عند حديثه عن الماوردي، في المسألة نفسها، ليس هنا مكانه.

وقد تعرفت الشعرية العربية القديمة إلى هذه المسألة من خلال بحثها في مفهوم الصنعة في الشعر، أو ما عرف، تسمية ً، بمرحلة التنقيح التي كان زهير بن أبي سلمى نموذجاً لها، بامتياز. يقول ابن رشيق القيرواني، في سياق حديثه عن المصنوع من الشعر "، .. حتى صنع زهير الحوليات على وجه التنقيح والتثقيف، يصنع القصيدة ثم يكرر نظره فيها خوفاً من التعقب بعد أن يكون قد فرغ من عملها في ساعة أو ليلة "(3)، أو من خلال ما كان قد عد وجها،ً من قبل النقاد، من وجوه السرقات الشعرية، فيما يخص المعاني على وجه التحديد، وذلك أثناء موازنتهم بين الشعراء. لكن ماذا عن الصياغة النهائية ؟

الحقيقة- قبل الخوض في هذه المسألة، باعتبارها جديدة، على نحو معين- أننا كنا قد قمنا بنشر بيان ثقافي، بعنوان : " مفهوم الصياغة النهائية للتجربة الإنسانية" ،نثبت،هنا، أهم ما جاء، فيه بعد توضيحنا للقارئ أن الدافع الرئيس الذي كان وراء هذا البيان، بكل ما يحمله من إدعاءات، وتصريحات، وملابسات، وحيثيات، ومسميات..، هو عبد القاهر الجرجاني الذي رأينا أنه قد أساء الفهم تجاه تجربة المتنبي، من خلال مقياسه المشهور " الحقيقة والمجاز" تحديداً ، فيما يتعلق بالأشعار التأملية للمتنبي، أو ما عرف بأشعار الحكمة والمثل في الشعرية العربية، إذ عدها: " صريح معنى ليس للشعر في جوهره وذاته نصيب، وإنما له ما يلبسه من اللفظ ويكسوه من العبارة وكيفية التأدية، من الاختصار وخلافه، والكشف أو ضده" (4)، مما يهدم، معه، تجربة المتنبي برمتها.

بالإضافة إلى أن ثمة دوافع أخرى متعددة، مثل بحثنا في التجربة الشعرية في ضوء مفاهيم لها علاقة بالاختلاف كقطيعة معرفية، وكتحول تاريخي، وكطريقة جديدة في القول على وجه الابتداء، مما سهل لنا الاهتداء إلى الفكرة (فكرة الصياغة النهائية)، ومن ثم بلورتها كظاهرة مستقلة، بذاتها، من ظواهر التميز والاختلاف، بعيداً عما كان سائداً، حتى الامتداد في: التسمية، والمفهوم، والمصطلح.

2.1. البيان : مفهوم الصياغة النهائية للتجربة الإنسانية

".. في هذا البيان ندعي اكتشافنا لمقياس نقدي جديد وفريد، أثناء تأملنا في تجربة المتنبي الخالدة، وبعد أن نقول أن المتنبي ليس متنبياً في كل أشعاره، نزعم أن سر عظمة المتنبي، كشاعر، يتجسد في إغلاقه الباب على الشعراء بوضع ما أسميناه بـ "الصياغة النهائية" لمعنى ما متعلق بالتجربة الإنسانية عبر العصور.

والصياغة النهائية تتحقق بتحصنها الفريد على الاختراق. فلا ثمة مجال لإعادة الصياغة. فالكائن الشعري لدى المتنبي يكاد يفصح، بتفوقه العظيم، عن اكتماله وكماله. فمثلاً، حين يقول المتنبي، في بداية أشهر قصائده :

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

                                  وتأتي على قدر الكرام المكارم

فإن المعنى الذي كان مطروحاً على قارعة الطريق- على حد الجاحظ، والذي (أي المعنى الذي لم يلتقطه المتنبي من تلك القارعة، بل من تجربته الشخصية، كشاعر عظيم ) يشبه الكثير مما عند الناس، وقد عمل المتنبي على أن تكون له صياغة نهائية، مما لا يمكن لأي شاعر، مهما بلغت مقدرته وعظمته وتجربته، أن يعيد صياغة هذا المعنى نفسه بصياغة أقدر من تلك الصياغة النهائية للمتنبي، في المعنى نفسه. وينسحب الكلام عينه بالنسبة لمفهوم الصياغة النهائية على الأغلب، مما كان قد طرقه المتنبي، ولعل قوله :

ما كل ما يتمنى المرء يدركه                تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

يصلح لأن يكون نموذجاً ثانياً لمفهوم الصياغة النهائية: المقياس، الذي نعلن، عبره، سر عظمة هذا الشاعر، أو غيره، ممن سندرس متونهم الشعرية: استقراءً، ووصفاً، وتحليلاً في غير هذا المكان. لقد قال المتنبي شعراً عظيماً، فيه من الطرافة والعمق مما يستشهد به على شاعريته الفذة، كأن يقول :

وقفت وما في الموت شك لواقف

                                       كأنك في جفن الردى وهو نائم

إلى أخر الأبيات. إن مثل هذا الجمال في تصوير الفارس العربي مثلاً، لا علاقة له بمفهوم الصياغة النهائية، لأنه من الممكن جداً أن نجد صياغة أخرى للشاعر نفسه، أو لغيره من الشعراء، تتفوق، مخترقة، هذه البنية. ولأن هذا النوع من البناء من الممكن إدراجه ضمن مقاييس أخرى: كالشاعرية مثلاً، أو أي مقياس جمالي آخر.

نعود إلى مفهوم الصياغة النهائية، الذي اكتشفنا، عبره، سر عظمة هذا الشاعر، لنقول أنه لا علاقة لهذا المفهوم، من حيث الجوهر، بمفهوم بيت القصيد، ولا علاقة له بما سمي بأبيات الحكم، والأمثال، التي تكثر في متون بعض الشعراء، مثل لامية العرب أو العجم، أو الديوان المنسوب للإمام علي (ع)، أو للشافعي، أو ما شابه ذلك، مما تركه لنا الأولون: شعراء وبلاغيين، نقاداً وعلماء، بينما له علاقة من عمل هؤلاء، أو أولئك، على صعيد التجربة الإنسانية، كأن يكون، مثلاً، بيت جرير، الذي يقول :

بعثن الهوى ثم ارتمين قلوبنا

                                  بأسهم أعداء وهن صديق

،كأن يكون تمهيداً لأبي نواس، لكي يعيد صياغته: مبنى ومعنى، ليخرج في هيئة من الصياغة، نستطيع إدراجه ضمن مفهومنا للصياغة النهائية، حيث يقول :

          إذا اختبر الدنيا لبيب تكشفت

                                         له عن عدو في ثياب صديق

لكن على الرغم مما يظهره بيت أبي نواس من تفوق على سابقه، وربما على الكثير مما تحمله ثقافتنا العربية تجاه هذا المعنى : " التجربة/ الصداقة/ الخيانة"، فإنه بالقياس إلى نموذج المتنبي السابق، قد يحملنا على التردد في الحكم عليه من أنه صياغة نهائية، بل على نحو، وهو الصحيح،  ما هو لدى حافظ ابراهيم ( وهو شاعر تقليدي، ولا يرقى إلى أكثر من هذا الوصف)  الذي يقول :

          الأم مدرسة إذا أعددتها

                                  أعددت شعباً طيب الأعراق

وإن كان ليس في الإمكان أحسن مما قدمه هذا الأخير، في هذا المعنى. في الوقت الذي  فيه، من الممكن، اختراق هذه البنية التقليدية، لكن، الحاصل أنه لم يحدث أن قام شاعر آخر، باختراقها إلى حد الآن، وإن كان في الإمكان إيجاد أحسن مما كان.

ولكي لا نفقد الخيط، نعود إلى المتنبي لنضع نموذجاً له جديداً، به، نوضح للقارئ اللبيب أن ثمة محاولة للوصول إلى صياغة نهائية من قبله، في قوله  ثلاث مرات على التوالي- ومن قصيدة واحدة- :

  تهاب سيوف الهند وهي حدائدُ         فكيف إذا كانت نزارية ً عربا

  ويرهب ناب الليث والليث وحده       فكيف إذا كان الليوث له صحبا

  ويخشى عباب البحر وهو مكانه      فكيف بمن يخشى البلال إذاعبا

فالمعنى، هنا، واحد على الرغم من اختلاف اللفظ. وقد ضربنا، بهذه الأبيات، مثلاً، لا على سبيل أنها نماذج للصياغة النهائية، وإنما على سبيل النمذجة، كمحاولةٍ للوصول بالمعنى إلى صياغة نهائية عند المتنبي، الذي لم ينجح مثلاً فيها. بينما لو تأملنا محاولة أحمد شوقي الذي كان قد حاول ثلاث مرات، ليقدم لنا صياغة نهائية لمعنى واحد (وهو الأخلاق)، ففشل في الثلاث كلها، حتى جاءت محاولته الرابعة، فنجح أيما نجاح، معلناً، صياغة نهائية- بعد لأي وجهد-. ففي المحاولة الأولى، سيقول :

ولا المصائب إذ يرمي الرجال بها

                                  بقاتلات إذا الأخلاق لم تصب

،وفي الثانية، سنقرأ له :

كذا الناس بالأخلاق يبقى صلاحهم

                                              ويذهب عنهم أمرهم حين تذهب

،وفي الثالثة، يقول :

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

                                  فإن تولت مضوا آثارها قدما

إن ما سلف كان محض محاولة، وبالمحاولة، ينجح شوقي، في تقديم صياغة نهائية، ليقطع الطريق على الشعراء في هذا المعنى بقوله، وقد اكتملت صياغته:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

                                  فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وينسحب هذا النجاح على قوله، في معنى آخر، مثلاً :

قم للمعلم وفه التبجيلا

                                  كاد المعلم أن يكون رسولا

،وغير ذلك مما لا يحضرنا الآن، مما سارت به الركبان، وخلدته، اختياراً، اللسان، وكان مما لا يبلى، مهما تقادم عليه الزمان. وما ينطبق على شوقي، وحافظ، وغيرهما ممن سلف، نجده  ينطبق على أبي القاسم الشابي، في قوله :

إذا الشعب يوماً أراد الحياة

                                  فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلي

                                  ولابد للقيد أن ينكسر

أو الشاعر إيليا أبو ماضي، في قوله :

أيهذا الشاكي وما بك داء

                                  كن جميلاً ترى الوجود جميلاً

مع الفارق بين كل هؤلاء، وأولئك، كون المسألة نسبية من زاوية أن الصياغة النهائية، قد توجد لدى الشاعر التقليدي، مثلما حصل مع حافظ، أو الشاعر القديم، كالمتنبي. فهناك، بالرغم من اندراج هذه الشواهد تحت مفهوم الصياغة النهائية، فوارق جمالية، لا مجال هنا، للاسترسال فيها... (5)

نكتفي بما تقدم من البيان المطول، الذي كان قد مس قضايا فكرية، وثقافية، وتاريخية، أثناء معالجتنا على نحو نظري وتطبيقي لمفهوم الصياغة النهائية. وقد أثبتنا ما يخص هذه الأخيرة، هنا، على علات البيان، دونما حذف، أو زيادة، نظراً لما تقتضيه المسؤولية الملقاة على كاهل الباحث من حيث الأمانة في الطرح، والتوثيق.

لنقول، أننا، بعد ذلك، بشهور- وعلى سبيل الصدفة التي لا تمنح إلا للباحث الحقيقي الجاد- كنا قد اكتشفنا أن ثمة من كان قد تناول المسألة نفسها، في الشعرية العربية القديمة، بطريقة، أو بأخرى سواء ، بخصوص ذلك، بالإشارة، أو بالاستطراد.كيف ؟ إِن ذلك ما سوف نعرفه من خلال العنصر التالي.

2. استقصاء في العهد القديم

          1.2 أهم ثلاث إشارات بخصوص الصياغة النهائية

تعرف الشاعريون العرب القدماء إلى مفهوم الصياغة النهائية عن طريق بحثهم في أوجه الإعجاز القرآني. عبد القاهر الجرجاني، واحد من أبرز الذين خاضوا في هذه المسألة، على نحو عميق ودقيق. سنعود إليه، لاحقا،ً بعد استعراضنا لأهم ثلاث إشارات هامة، بهذا الشأن.

1.1.2 قدامة ونهاية الجودة

 فهذا قدامة بن جعفر الذي اشتغل على النقد، يشير إلى موضوع الصياغة النهائية، بما سماه ب" نهاية الجودة"، وذلك على نحو نظري، وإن لم يتمكن من الخوض في مراحل الجودة عند التطبيق (6).

2.1.2 ابن طباطبا ـ منتهى الصدق

ابن طباطبا صاحب نظرية الصدق الذي يحقق الجمال، سيأتي، من بعده، ليستغل مختلف مدلولاته في بناء النظرية، مثيراً بذلك موضوع الصياغة النهائية، وإن هو أيضاً، لم يتنبه إلى " منتهى الصدق" المؤدي إلى غاية الجمال. ولعل السبب يعود، في ذلك، إلى انشغاله بمصير الشعر المحدث"(7).

في كتاب الموازنة للآمدي يمكن لنا أن نعتبر، ما أسماه بنهاية الصنعة، إشارة إلى مفهوم الصياغة النهائية، وإن كانت تلك الإشارة بعيدة، وغير مقصودة بما نحن بصدده، أثناء تعرضه لصناعة الشعر التي " لا تجود وتستحكم إلا بأربعة أشياء وهي :

1- جودة الآلة،

2- وإصابة الغرض المقصود،

3- وصحة التأليف،

4- والانتهاء إلى نهاية الصنعة من غير نقص منها ولا زيادة عليها" (8).

3.1.2 الجرجاني والسبق إلى إثارة المفهوم ـ الصياغة النهائية

 غير هؤلاء، لم نجد لأحد من الشاعريين العرب القدماء، والمعاصرين شيئاً ذا أهمية تذكر، ولو على سبيل التأويل، حتى قرأنا عبد القاهر الجرجاني، من خلال رسالته الشافية في وجوه الإعجاز، الذي كان قد أثار ما سميناه بالصياغة النهائية بعمق ووضوح كبيرين، أثناء تعرضه لقضية السبق في المعاني، عبر فصل كامل في فن آخر من السؤال. لعل أهم ما جاء فيه قوله :

" إن الشاعر يسبق في الكثير منها إلى عبارة يعلم

  ضرورة أنها لا يجيء في ذلك المعنى إلا ما هو دونها

ومنحط عنها، حتى يقضى له بأنه قد غلب عليه واستبد به،

كما قضى الجاحظ لبشار في قوله :

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا

                                    وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

فإنه أنشد في هذا البيت مع نظائره ثم قال :

وهذا المعنى قد غلب عليه بشار، كما غلب عنترة في قوله :

وخلا الذباب بها فليس لبارح

                                  غرداً كفعل الشارب المترنم

هزجاً يحك ذراعه بذراعه

                                  قدح المكب على الزناد الأجذم

قال: فلو أن امرأَ القيس عرض لمذهب عنترة في هذا لافتضح. وليس ذاك لأن بشاراً وعنترة قد أوتيا في علم النظم جملةَ ما لم يؤت غيرهما، ولكن لأنه إذا كان في مكان خبئ فعثر عليه إنسان وأخذه، لم يبق لغيره مرام في ذلك المكان، وإذا لم يكن في الصدفة إلا جوهرة واحدة، فعمد إليها عامد فشقها عنها، استحال أن يستام هو أو غيره إخراج جوهرة أخرى من تلك الصدفة. وما هذا سبيله في الشعر كثير لا يخفى على من مارس هذا الشأن. فمن البين في ذلك قول القطامي :

فهن ينبذن من قول يصبن به

                                  مواقع الماء من ذي الغلة الصادي

وقول ابن حازم :

كفاك بالشيب ذنباً عند غانية

                                  وبالشباب شفيعاً أيها الرجلُ

          وقول عبد الرحمان بن حسان :

لم تفتها شمس النهار بشيء

                                  غير أن الشباب ليس يدوم

وقول البحتري :

غريقون في الإفضال يؤتنف الندى

                                              لنا شئهم من حيث يؤتنف العمرُ

لا ينظر في هذا وأشباهه عارف إلا علم أنه لا يوجد في المعنى الذي يرى مثله، وأن الأمر قد بلغ غايته، وأن لم يسبق للطالب مطلب. وكذلك السبيل في المنثور من الكلام، فإنك تجد فيه متى شئت فصولاً يعلم أن لن يستطاع في معانيها مثلها، فمما لا يخفى أنه كذلك قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه : " قيمة كل امرئ ما يحسنه"، وقول الحسن رحمة الله عليه : " ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت".

ولن تعدم ذلك إذا تأملت كلام البلغاء ونظرت في الرسائل. ومن أخص شيء بأن يطلب ذلك فيه، الكتب المبتدأة الموضوعة في العلوم المستخرجة، فإنا نجد أربابها قد سبقوا في فصول منها إلى ضرب من اللفظ والنظم، أعيا من بعدهم أن يطلبوا مثله، أو يجيئوا بشبيه له، فجعلوا لا يزيدون على أن لا يحفظوا تلك الفصول على وجوهها، ويؤدوا ألفاظهم فيها على نظامها وكما هي. وذلك ما كان مثل قول سيبويه في اول الكتاب : " وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى وما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع". لا نعلم أحداً أتى في معنى هذا الكلام بما يوازيه أو يدانيه، أو يقع قريباً منه، ولا يقع في الوهم أيضاً أن ذلك يستطاع" (9).

نخرج ، بعد إنصاتنا لعبد القاهر الجرجاني، بالاستخلاص الموجز، في النقاط التالية :

1- يسبق الشاعر إلى المعاني بعبارة يعلم ضرورة أنها لا يجيء في ذلك المعنى إلا ما هو دونها.

2- يعود السر في ذلك إلى الأسلوب في النظم أو الطريقة عند التأليف.

3- من المستحيل أن يعم مفهوم الصياغة النهائية الشاعر في جميع ما يكتب.

4- ينسحب الكلام نفسه في الشعر على مجال النثر بما في ذلك القرآن الكريم.

5- يندرج تحت هذا المفهوم القليل جداً من النماذج في عموم الثقافة العربية، في كل العصور، باستثناء القرآن الكريم.

إن ذلك مجمل ما قاله عبد القاهر الجرجاني، الذي نعترف بسبقه إيانا، إلى مفهوم الصياغة النهائية، وإن افتقد الأمر معه إلى التسمية، وضبط المصطلح على نحو ما حدث معنا، حيث كان منشغلاً بقضية الإعجاز، في حين أن المفهوم الذي كنا قد طرحناه بصدد الصياغة النهائية أوسع من الإعجاز، ومشتمل عليه، في الآن نفسه.

والخلاصة أن اختلاف المنطلقات، والدوافع بالنسبة لنا، مقابلة مع الجرجاني، هي ما يمكن أن تمنح طرحنا بشأن الصياغة النهائية صفة المغايرة، لا السبق الذي كان من حق الجرجاني، فاعترفنا به، ممتنين لهذا العبقري، ومعترفين بحقه في التقدم والفضل كأستاذ في كل  العصور.

















1) – أنظر المقدمة لأحمد بن محمد الشامي، حصاد العمر، دار العودة، بيروت، طI، 1980، ص 2.

(2) – محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي، مركز دراسات الوحدة، طI، 2001، بيروت- لبنان، ص 39.

(3) – ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، تحقيق محمد قرقزان، الجزء I، مطبعة الكاتب العربي بدمشق، ط2، 1994م،ص 258.

(4) – عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، قراءة محمد شاكر، مطبعة المدني- القاهرة، دار المدني بجدة، ط I، 1991، ص 265.

(5) – نشر هذا البيان بعنوان رئيس: نعلن، الآن، اليمن مركزاً ثقافياً يطرح السؤال- مفهوم الصياغة النهائية للتجربة الإنسانية بجريدة الثقافة، العدد 118، الموافق15/11/2001 م، صادرة عن مؤسسة الصحافة والنشر، تعز- اليمن.سنثبته ،كاملاً، في ملحق هذه الأطروحة، بالإضافة إلى مصادر شواهده السابقة.

(6) – أنظر إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الشروق، عمان- الأردن، ط2، 1993، ص 329.

(7) – نفسه، ص 329.

(8) – الآمدي، الموازنة بين أبي تمام والبحتري، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر، ط3، 1959، ص 382.

(9) –  عبد القاهر الجرجاني : دلائل الإعجاز،( الرسالة الشافية )، قراءة محمود محمد شاكر،(م.س)ن ص 602-610.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق