رواية السيرة الذاتية في اليمن
رواية (دملان) بين التوق إلى الخيال وفخ الواقع
" دملان " رواية
وليست شهادة ولا سيرة ذاتية كما يؤكد ذلك عبد السلام الكبسي الذي كتب في مقال
بعنوان”دملان شهادة ورواية” أن مؤلف (دملان) “لا يقصد أن ينافس الآخرين في الوقت
الذي يقصد تقديم سيرة ذاتية شخصية له بأسلوب – من حيث اللغة – رشيق ما أمكن له
ذلك”.
في إطار دراسة قمت بها عن فن السيرة الذاتية في اليمن (انظر الملحق الثقافي 31 مايو 2004) لاحظت أن أشكال كتابة الذات بما فيها السيرة الذاتية التي انتشرت وتطورت في الآداب الغربية منذ القرن الثامن عشر قد ظلت محدودة في الأدب العربي بشكل عام وفي اليمن بشكل خاص، وتتداخل في كثير من الأحيان مع الكتابة الروائية. وأشرت إلى أن بعض النقاد يرى أن عددا من الأدباء العرب- بسبب ضيق هامش الحرية الإبداعية والفكرية والاجتماعية التي مُنِحت للقلم العربي-يفضلون تناول جوانب من تجاربهم الذاتية في “رواياتهم السير ذاتية” التي يستطيعون فيها التصدي بحرية لمختلف الموضوعات والتابوهات. فالدكتور جابر عصفور، مثلا، حين يحاول تعليل ندرة كتابة السيرة الذاتية في الأدب العربي مؤكدا –في مقال عن “شجاعة الاعتراف”- أن الكاتب الأوروبي يتمتع بمساحة واسعة من الحرية ولا يشعر بالخجل أو الخوف، ولا يضطر إلى الرياء أو النفاق أو الكذب، بينما يبدو نظيره العربي “محروما من الحرية ومقموعا من مجموعة الضغط السائدة… فثقافتنا بحكم أوضاعها وشروطها لا تتيح للكاتب وضع شجاعة الاعتراف، والكاتب نفسه يخشى من نتائج هذا النوع من الشجاعة، فيؤثر السلامة، ويلجأ إلى فن الرواية حيث يمكن للتقية والمراوغة أن تكونا بديلا عن الشجاعة”. لهذا يرى د. جابر عصفور أن كتابة رواية السيرة الذاتية تحرر الكاتب من قيود كتابة السيرة الذاتية، “فالرواية عمل خيالي في نهاية الأمر وتملص الكاتب من أية مشابهة بينه وبين إحدى الشخصيات مسألة ممكنة فضلا عن أن القالب الخيالي للرواية يتيح للكاتب الحديث عن المحرمات التقليدية دون حرج: الدين والسياسة والجنس..”.
ومن المعلوم أنّ فيليب لوجون في نصه المرجعي (السيرة الذاتية: التاريخ والميثاق) يعرف السيرة الذاتية بأنها”سرد استذكاري نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك حينما يركز على حياته الفردية، وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة”. وعن رواية السيرة الذاتية يقول فيليب لوجون: “سأطلق هذا الاسم على كل النصوص التخيلية التي يمكن أن تكون للقارئ فيها دوافع ليعتقد، انطلاقا من التشابهات التي يعتقد أنه اكتشفها، أن هناك تطابقا بين المؤلف والشخصية، في حين أن المؤلف اختار أن ينكر هذا التطابق، أو على الأقل اختار أن لا يؤكده”.
في اليمن، لا تزال ممارسة الكتابة الروائية بشكل عام، لاسيما الناضجة منها، محدودة الانتشار. ويبدو أن جزءا لا بأس به من الروايات اليمنية، كـ(الرهينة) لزيد مطيع دماج و(زهرة البن) لعلي محمد زيد يشكل تجارب يتيمة لمؤلفيه، وبطبيعته تلك يميل، مثل كل التجارب الروائية اليتيمة، إلى الاقتراب بشكل أو بآخر من حياة مؤلفيه، وبالتالي من جنس رواية السيرة الذاتية. ولأننا لن نستطيع هنا تقديم قراءة شاملة للمتن الروائي اليمني فسنحاول أن نتبيّن مدي ابتعاد أو اقتراب رواية (دملان) لحبيب عبد الرب سروري من رواية السيرة الذاتية.
إن النص الذي أصدرته مؤسسة العفيف للأستاذ حبيب عبد الرب سروري بعنوان (دملان) يحتوي في غلافه الأول نصا موازيا يؤكد أنه رواية. ومن هذا المنطلق، ينبغي على القارئ التعامل مع هذا النص باعتباره نصا خياليا. فالرواية في التحليل الأخير نص خيالي. والمؤلف في مقابلة أجرتها معه لارا الضراسي ونشرتها صحيفة الأيام تاريخ 7/4/2004 يؤكد أن “أحداث وشخوص (دملان) خيالية بحتة، غير أن المدن والأماكن والرموز الاجتماعية والمنعطفات الزمنية الرئيسية التي تشكل مسرحا للرواية مستوحاة من الواقع. الحق أني أريد أن يشعر القارئ أن كل ما يدور كأنه واقع حقا، أريده أن يسقط في مطب متابعة كل ما حدث كأنه حدث حقا. باختصار شديد حاولت أن “أموضع” شخوصا وأحداثا خيالية بحتة في مسرح من طوبات الواقع، حاولت أن أؤثث الواقع بالخيال، غير أن الخيال هو ماكنة دملان الرئيسة”.
ومما لاشك فيه هو أن حبيب سروري يدرك أنه في روايته الأولى (المكلة المغدورة) قد خلق وشائج عديدة بينه كمؤلف وبين الراوي/البطل ناجي ابن الشيخ عثمان الذي استقر في روان بالقرب من باريس في فرنسا، وهناك استقبل أمه المريضة في مستشفى “فندق الرب”…. كما أن المؤلف قد سعى إلى توثيق الصلة بين النص الأصلي –الفرنسي- لروايته تلك وبين الواقع من خلال إضافة ملحق وثائقي عن مدينة الشيخ عثمان لم يترجم إلى العربية.
ربما لهذا السبب يقول عبد الرب سروري في مقابلته مع لارا الضراسي “لعل مشروع دملان أرسى بالنسبة لي علاقة جديدة مع الخيال كجوهر للعمل الإبداعي ومع الكتابة الروائية كخلق خيالي قبل كل شيء. وبعد تجربة دملان اقتنعت أكثر من أي وقت مضى أن كتابة أية رواية تدور في فلك سيرة واقعية يظل خلقا أدبيا محدودا ونوعا من “المحاضر” الأدبية في آخر التحليل، جذابا جدا، لكنه لا يطلق عنان الخيال ولا يفتح كل أبواب الخلق مثل الإبداع المترع بالخيال”.
ومن اللافت أن رأي المؤلف هذا يتطابق تماما مع رأي وجدان، راوي/بطل (دملان) الذي يقول (ص232) “هكذا أنا: أحب الخيال، أكره الواقع! الواقع ضحل، محدد، وحيد. الخيال موكب ينساب نحو اللانهاية. الواقع جمرك يوقف الكلمة، سجن للفكرة، الخيال عالم بلا جمارك بلا جدران بلا نهايات. ما أسعد كاتب رواية الخيال! هو رب روايته، يخلق شخوصه كيفما يشاء..، كاتب رواية الخيال يخلق الواقع من دماغه، فيما كاتب رواية الواقع لا يختلف كثيرا عن مسجل المحاضر”.
ومما لا ريب فيه هو أن مؤلف “الرواية الواقعية”: (الملكة المغدورة) قد سعى إلى ترسيخ نصه الروائي الثاني (دملان) في الفضاء الخيالي، لاسيما من خلال الصفحات التي يتحدث فيها الراوي عن زيارته مع أستاذه نجيب لمملكة عاصمة مملكة دملان الخيالية.
ومع ذلك، فهناك وشائج عديدة ومتنوعة تربط بين نص (دملان) وبين الواقع والشخصيات التي يرسمها المؤلف في روايته. ويبدو لي أن كثيرا من شخصيات (دملان) ليست نماذج إنسانية عامة وفي كثير من الأحيان تحيل إلى أفراد يمكن التعرف عليهم في الواقع. ويمكن للذين جايلوا المؤلف في عدن أو في فرنسا أن يهتدوا إلى بعض “المفاتيح” التي استخدمها المؤلف لتوليف شخصياته الخيالية/الواقعية. كما يبدو أن شخصية وجدان الخيالية نفسها شخصية مركبة من عدد الأشخاص الواقعيين. ويعترف حبيب سروري بوجوده شخصيا في الرواية وإن كان “في دور ثانوي جدا”. وفي صفحة 50 يعترف وجدان راوي/بطل (دملان) أن والده الذي كان إماما وخطيبا لأحد مساجد الشيخ عثمان “لم يكن له أدنى مقدرة على الإسهاب في التحدث أو الكتابة في علوم الفقه والسنة كبعض تلاميذ العلامة الشيخ قاسم مثل الشيخين عبد الرحمن الشرماني وعبد الرب السروري..”. ويعترف المؤلف حبيب أنه ابن هذا الشيخ العلامة الأخير.
وإذا كان المؤلف يؤكد أنه “لا علاقة بين الراوي وجدان والكاتب حبيب، من قريب أو بعيد، إن لم يكن كل واحد منهما عكس الآخر تماما… أحداث حياة وجدان مخترعة تماما ولا علاقة لها بما عشته..” فهو يضيف في السياق نفسه: “لكن ذلك لم يمنعني من تمرير بعض أذواقي الحياتية هنا وهناك باسمه وعلى لسانه. غير أن حبيب موجود في الرواية ببدايات اسمه الحقيقي: ح. ع. س. في دور ثانوي جدا”.
وفي الحقيقة يحظى ح. ع. س. باهتمام لا بأس به في رواية دملان؛ فهو أحد أقرب صديقين للراوي/البطل وجدان. وأحيانا يضمن المؤلف تفاصيل خاصة بـ ح. ع. س. ليس لها على ما يبدو أي علاقة مباشرة بسياق الأحداث. فمثلا حين يروي الحاج الرديني (ص407) المصير الذي آلت إليه سوسن بعد حرب 86 يقول: “ها هي الآن، كما أظن راعية في قرية أجدادها النائية في منطقة البيرين المحاذية لبني سرور مسقط رأس والد صديقك في فرنسا ح. ع. س. ، والده الذي توفي رحمه الله في نهاية 1984، وقبر هنالك. وقبرت بجانبه أيضا زوجته صفية، أم صديقك في فرنسا التي توفت، ذات صباح وردي حزين، في 2 إبريل 1991 في فرنسا أمام عيني صديقك مباشرة في مستشفى “فندق الرب” في مدينة روان المجاورة لباريس. أعرف أن صديقك يسافر بانتظام مع زوجته ن. ف. وطفلتيه ع. و ك. للانحناء أمام أكمة صغيرة أسفل قرية معينات في بني السرور، يعلوها قبريهما. أعرف أيضا أنه يدين لهما، ولمرافقاته الثلاث، بكل ما هو جميل وممتع وأخاذ في حياته”.
وبالإضافة إلى ذلك تظل محاولة حبيب سروري لترسيخ نصه الروائي الثاني في الفضاء الخيالي محدودة. فتلك الصفحات التي يتحدث فيها المؤلف عن زيارته لعاصمة مملكة دملان وتؤطر النص في بدايته ونهايته تظل في الحقيقة محدودة جدا مقارنة بطول الرواية. ويمكن القول كذلك إن المؤلف، حتى حين يعمد إلى استخدام الخيال فهو في كثير من الأحيان ينطلق من الواقع ولا يقوم بتحريفه إلا قليلا. هكذا تصبح عدن مثلا عدم، وشاطئ خليج الفيل شاطئ خليج الثور…
لذلك يبدو أن رواية (دملان) تسعى إلى تصوير عدن ومناطق أخرى من اليمن– خلال حقبة محددة من تاريخها- بطريقة تقترب من الواقع، إلى درجة أن بعض القراء الذين لم يعرفوا عدن يرون أن الصورة التي تقدمها لهم رواية دملان عن عدن أكثر دقة من الصورة التي تقدمها لهم عنها كتب التاريخ والجغرافيا. فالأديب السعودي عمر طاهر زيلع، مثلا، كتب في صحيفة عكاظ السعودية في عددها الصادر بتاريخ 18 يناير 2004 ” لقد قرأت عن (عدن) كثيراً في كتب التاريخ المحايدة وغير المحايدة بما فيها بعض كتب (الرفاق) ومنهم عبدالفتاح اسماعيل … غير أني قرأتها بدرجة أكثر عمقاً في (سانت مالو) و(دملان).. خور مكسر والشيخ عثمان, والسيلة وزرائبها و(زرائب منتديات القات) ومسجد (دعبوسي) وشاطئ (جولد مور), ومتاكي مدمني القات تحت ظلال صخورها”.
ويصف هذا الكاتب السعودي رواية دملان قائلا إنها”خلطة عجيبة من التاريخ والسيرة الذاتية، والمذكرات، ومن النثر والشعر والسجع وتجليات فنية يفتقر إليها معظم كتاب الرواية العرب”. ولا شك أنّ الأبعاد الوصفية الواسعة التي تحتويها رواية (دملان) يمكن أن تدفع القارئ إلى قراءتها كنص واقعي. إذ أنه من الصعب الزعم أن هناك خيالا في تقديم سوق الملح في صنعاء أو وصف رحلة وجدان من سيؤن إلى مدينة هود في حضرموت التي لن نجد أدق منها في أكثر الأدلة السياحية أمانة.ً
لهذا، يمكننا القول إن مؤلف (دملان)، على الرغم من رغبته في كتابة رواية خيالية، قد استمد معظم عناصر روايته من الواقع واستطاع أن يعيد صياغة كثير من الأحداث التي شهدتها اليمن ويستثمرها بشكل ذكي في روايته. ولذلك أعتقد إن رواية (دملان) ليست رواية خيالية بل رواية واقعية تتوق إلى الخيال. وهي بعكس (الملكة المغدورة) التي لم تنج من “مطب الدوران في فلك السيرة الواقعية” لا تكاد تقترب من رواية السيرة الذاتية. وتظل في المقام الأول رواية وليست شهادة ولا سيرة ذاتية كما يؤكد ذلك عبد السلام الكبسي الذي كتب في مقال بعنوان”دملان شهادة ورواية” أن مؤلف (دملان) “لا يقصد أن ينافس الآخرين في الوقت الذي يقصد تقديم سيرة ذاتية شخصية له بأسلوب – من حيث اللغة – رشيق ما أمكن له ذلك”.
وأختتم ملاحظاتي هذه بتعليق ضمنه حبيب سروري دراسة كتبها عن رواية (وردة) التي “يسرد” فيها الروائي المصري صنع الله إبراهيم عددا من الأحداث التي وقعت في جنوب الجزيرة العربية في الثلث الأخير من القرن العشرين. يقول فيه”حقا من يستطيع إعادة صياغة كل تلك الأحداث واستثمارها فنيا وروائيا، من يستطيع ربطها والغوص في رمالها المتحركة، من يستطيع الإبحار في تاريخ وثقافة جنوب الجزيرة العربية بكل ظروفها وتقلبات حياة أهلها.. إلا كاتب ملهم، صادق ملتحم أراد أم أبى، بآمال البسطاء والمسحوقين!”
http://alsard.wordpress.com/2011/11/05/%D8%AF%D9%85%D9%84%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%A9/
http://alsard.wordpress.com/2011/11/05/%D8%AF%D9%85%D9%84%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%A9/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق