الجمعة، 19 أكتوبر 2012

مقاييس نقدية : الصدق والكذب الدكتورعبدالسلام الكبسي

الدكتورعبدالسلام الكبسي
 
 
 
الصدق والكذب
يرى عبد القاهر الجرجاني أن القيمة في الشعر لا تتركز على المصداقية التي تتصف بها الموضوعات من عدمها " بأن ينحل من الوضيع بالرفعة ما هو منه عار، أو يصف الشريف بنقص وعار…"(16)، كون المسألة ( أعني القيمة) برمتها، متعلقة بالشعر نفسه، كماهية وإبداع.وإذا كان مفهوم الصدق، في الشعر، قائماً على " ترك الإغراق والمبالغة والتجوز إلى التحقيق والتصحيح، واعتماد ما يجري من العقل على أصل صحيح"(17)، فإنه ليس، عند من ذهب هذا المذهب، مقياس، لاقتدار الشاعر فحسب، بل وحذق الشعر.وفي المقابل يرى، من اتجه غير هذا الاتجاه، أن الشاعر إذا اعتمد الكذب، فقد قصد" الإتساع والتخييل"(18)، " وهناك يجد الشاعر سبيلاً إلى أن يبدع ويزيد، ويبدئ في اختراع الصور ويعيد" (19)، فتظهر" قوته في الصياغة وتمهره في الصناعة "(20).والواضح أن ثنائية: الصدق والكذب، كمقياس، كانت نتاج عصر المحدثين الممتد، ما بين الفرزدق وأبي تمام، حيث ظهر ما يسمى بمفهوم الصنعة، كبديل جذري للتجربة، على اعتبار أن الصدق يعبر عما هو تجربة حياتية شعرية، مثلما حصل مع الشعراء العذريين، في مقابل شعراء النقائض، الذين كانوا- حسب عبد المجيد زراقط، قد تميزوا بهمٍّ صياغيٍّ يقصد إلى أداء المعنى المعروف أداءً جديداً، وإلى توليد هذا المعنى (21)، أو مثلما حدث مع البحتري، في مقابل أبي تمام، من العصر العباسي، مع وجود الفارق ما بين العذريين، وبين البحتري، من حيث طبيعة ونوع التجربة من جانب، وما بين شعراء النقائض وأبي تمام من حيث اختلاف هذا الأخير، بذهابه، من جانب آخر، أبعد مما كان قد عبر عنه عبد المجيد زراقط بالهم الصياغي حيث الشعر: كقطيعة معرفية، أو ما يندرج تحت ذلك.ولقد استمر الشاعريون بالعمل بهذا المقياس، الذي كان ابن طباطبا (22) من أوائل من نظر له، على نحو شامل، إلى أن جاء حازم القرطاجني، معلناً، قصور هذا المقياس، بقوله : " وليس يعد شعراً من حيث هو صدق، ولا من حيث هو كذب، بل من حيث هو كلام مخيل " (23).وهو، بهذه الصرخة المفتنة - إن جاز لنا القول- كان قد رأى إلى المسألة، منطلقاً، من طبيعة الشعر نفسها، وهادماً، بذلك كل نظرية ترى إلى الشعر من خارجه، وإن اتسمت بالمعيارية التي قد لا تكون دقيقة وناضجة، وإن أبدت نوعاً من الصرامة والوثوق. الأمر الذي سيدفع النقاد إلى البحث عن حلول أخرى، باجتراح غير واحد من المقاييس .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق