د. عبدالسلام الكبسي ( اليمن )
من هو ذو القرنين ؟ وما حقيقة يأجوج و
مأجوج ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
" وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ
قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا
مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ
سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ
حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ
وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ
ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا
(88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا
تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ
أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ
بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا
(93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا
(94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ
الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ
عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ
نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا
جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا
بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا
(99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ
أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا
(101)- سورة الكهف .
بسم الله الرحمن الرحيم
(95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ
وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا
هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ
مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) – سورة الأنبياء .
التفسير
نقول كفرضية أولاً , أن المقصود بيأجوج و مأجوج هو البحر ( الماء
الممزوج بالملح ) , والذي لا فائدة منه للزراعة , بما فيها التربة الصالحة للزراعة,
متى ما لامسها .
وأن ( ذو القرنين ) , هو سليمان (ع ) . وأن السد لا يكون إلا حاجزاً
بين الماء , واليابسة .
دلالات كلمة : " فتحت " في القرآن الكريم
الفتح في اللغة هو الحكم:
وردت كلمة الفتح في سياقات قرآنية متعددة , ومع كل سياق كان لها معنى مختلف
بحسب السياق الواردة فيه . يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف : "
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89). صدق الله العظيم .
فالفتح هنا بمعنى القضاء والحكم .
ويقول الله تعالى في سورة الشعراء على
لسان نوح (ع ):"
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ
لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ
(117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(118) .
فالفتح
هنا أيضاً بمعنى الحكم والفصل والقضاء .
وهناك آيات قرآنية وردت فيها كلمة
الفتح بمعان مختلفة كالنصر , وال...
أما في سورة السجدة فقد وردت بمعنى
القيامة, يوم القيامة .يقول تعالى : " وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ
وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) – سورة السجدة .
وفي سياقات أخر جاءت مرتبطة بالماء وإن
لم يذكر , ذلك ما توضحه الآية 11 من سورة القمر التالية بخصوص الطوفان , نقول جاءت
في سياق البعث بعد الموت من القيامة بإعادة الحياة إلى الصور ( الأجساد تحديداً ,
باعتبار الصور جمع صورة لا مثل ما يقوله المفسرون من غير أهل البيت (ع ) بتفسيرهم
الصور بوقاً وما شابه ) . يقول الله سبحانه وتعالى في سورة النبأ : " (17) يَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ
أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ".
ويقول الله سبحانه وتعالى من سورة القمر
: " (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ
وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ
السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ
عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ".
والذي سيتتبع الآيات القرآنية الخاصة بيوم القيامة سيرى أنه إلى جانب
تكور الشمس , وانكدار النجوم , وتعهن الجبال ... , تتفجر البحار بالبراكين وتطغى
بالماء . يقول الله سبحانه وتعالى في سورة التكوير : " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ
(2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا
الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ
(10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا
الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) .
ويقول جل شأنه في سورة الإنفطار :
" إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ
(1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا
الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5).
ولذلك , من الممكن أن يقرأ قول الله
سبحانه وتعالى على لسان سليمان (ع ) الذي هو نفسه ذو القرنين (ع) في سورة الكهف :
" قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ
جَمْعًا( 99 ) , وربطها بقوله تعالى :(95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ
وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا
هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ
مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) – سورة الأنبياء , بالطريقة الآتية : " قال إن هذا السد قد تحقق لنا إنجازه بفضل
الله إذ ألهمنا العلم والمعرفة إلى ذلك فإذا قامت القيامة سيتحطم بفعل تدفق الماء , ماء البحار وطغيانه بسرعة على اليابسة بالطريقة التشخيصية التي
ذكرها القرآن الكريم : " حتى إذا فتحت , أي القيامة يتحطم السد ضمن ماسيتحطم
ويطغى الماء معتلياً ومتجاوزاً المرتفعات ( كل حدب ) بسرعة فائقة ( ينسلون ) . يقول
الله سبحانه وتعالى : " (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ
إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ . – سورة يس , أي يسرعون . علاوةً على تفجر بالنارمن
البحر والبر وموت الكائنات حد الإختلاط والتداخل . ثم سيتحقق البعث بالأجساد
والجمع من اجل الحساب . وقد استعار مشبهاً الموج لهم أي للبحار والبراري والكائنات
ليدلل على اختلاط وتداخل بعضهم في بعض، كالمولهين
من هول وخوف ومشهد و رؤية .
وعليه فإن المقصود بيأجوج و مأجوج هو
البحر المالح الشديد الملوحة فقد كان في بعض الأحايين يطغى على اليابسة مفسداً
المحاصيل من خضروات و حبوب وثمار وغيره . ومن أجل ذلك كان بناء السد . السد الذي
كان معروفاً لديهم إذ هم الذين سألوا ذا القرنين ( سليمان عليه السلام ) :
" قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى
أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94).
أقول كان معروفاً لديهم من حيث بنائه
بالطين والحجارة لا الحديد والفولاذ . هذا الأخير كان مقترح ذي القرنين ( سليمان
عليه السلام ) كصاحب معرفة وتجربة وخبرة من لدن السميع العليم . ولكي تتضح الرؤية
أكثر بشأن ذي القرنين الذي هو نفسه سليمان (ع ) , فقوله تعالى على لسان ذي
القرنين : " قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ
رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا "
, من قوله تعالى على لسان سليمان عليه السلام في " أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا
آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ"
.
وقوله تعالى على لسان ذي القرنين :
" آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ
انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا
" , من قوله تعالى عن سليمان: { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ) – سورة
سبأ.
من الممكن أن يرد في
القرآن الكريم إسمان أو أكثر لشخص واحد , مثل : عيسى ( المسيح عيسى بن مريم ) . قال تعالى :" يا مريم إن الله يبشرك بكلمة
منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ".- آل عمران . , ويعقوب ( إسرائيل ) , ومحمد ( احمد ) ,
وسليمان ( ذو القرنين , و الذي عنده علم من الكتاب ) .
دلالة كلمة: " القرن
" في القرآن الكريم .
ولكي تتضح الرؤية أكثر فأكثر بخصوص " ذو القرنين
" كتسمية , فهي من " القرن " , القرن , بمعنى الجيل أو الأمة من الجن
والإنس . وكان سليمان ( ع) معني بالثقلين : أمة الجن و أمة الإنس , ولذلك دعاه القرآن
وسماه ب" ذو القرنين ". يؤيد ذلك شواهد الآيات القرآنية الآتية :
1. أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا
السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ
فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ
(6) – سورة الأنعام .
2. أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا
مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ
أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) – سورة السجدة ,,إلى آخر الآيات.
والقرن على صعيد آخر هو القصيصة من
الشعر المظفور , وهي عادة بني إسرائيل , بل سمة من سماتهم .
صفات وأحوال سليمان (ع )
غير ذلك ستوفر لنا الآيات القرانية
التاليات صفات وأحوال لسليمان ( ع) كوارث لأبيه داوود , و كنبي , وكملك أفهمه الله
الحكمة وآتاه ملكاً وعلماً( سبباً ) لا ينبغي لأحد من بعده . له الريح , علم منطق الطير وأوتي من كل شيء , وأسلنا
له عين القطر ,ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن الله . ومن أحواله الذهاب بجيشه
والمجيء شرقاً و غرباً , حيث أصاب .
بعض هذه الصفات والأحوال يشار بها إلى ذي القرنين , مثل
:النبوة والملك ,والعدل ,و التمكين في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً ,والمعرفة (
فأتبع سبباً ) , والذهاب بجيشه شراقاً وغرباً , والقطر , والمنطق نفسه : ما مكني
فيه ربي خير ( فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ ) , ودعوة التوحيد , والتبشير بالوعد الحق
.
آيات عن سليمان ( ع )
يقول القرآن الكريم :
(10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ
فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ
الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ
وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ
عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ
مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا
آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا
عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ
مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ
مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)- سورة سبأ.
ويقول القرآن الكريم : (14) وَلَقَدْ آَتَيْنَا
دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى
كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى
وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ
لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ
ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي
بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا
لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا
شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ
غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ
يَقِينٍ (22إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ
فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ
أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ
ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ
إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
(31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً
أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ
وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ
إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ
يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ
الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ
بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ
تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ
بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا
الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
(38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ
وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ
أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا
عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ
شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ
(40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ
لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ
هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا
كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ
(43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ
عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) – سورة النمل .
ويقول الله سبحانه وتعالى: " وَدَاوُودَ
وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا
حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ
وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ
بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي
بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ
.ويقول : "وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ
ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) – سورة الأنبياء . ويقول سبحانه : " وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى
مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ
وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا
هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ
وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ
مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
(102)- سورة البقرة .
ويقول الله تعالى : " (29) وَوَهَبْنَا
لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ
بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ
عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ
مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا
عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي
مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا
لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ
بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ
مَآَبٍ (40) – سورة ص .
إختلاف القراءات تمنحنا فرصة
للتفسير
وقوله( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ
فِي الأرْضِ ) اختلفت القرّاء في قراءة قوله( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ) فقراءة
القرّاء من أهل الحجاز والعراق وغيرهم( إنَّ ياجُوجَ وماجُوجَ ) بغير همز على فاعول
من يججت ومججت، وجعلوا الألفين فيهما زائدتين ، غير عاصم بن أبي النجود والأعرج، فإنه
ذكر أنهما قرآ ذلك بالهمز فيهما جميعا، وجعلا الهمز فيهما من أصل الكلام، وكأنهما جعلا
يأجوج: يفعول من أججت، ومأجوج: مفعول.
والقراءة التي هي القراءة الصحيحة عندنا،
أن(ياجُوحَ وماجُوجَ( بألف بغير همز لإجماع الحجة من القرّاء عليه، وأنه الكلام المعروف
على ألسن العرب .
قال : " يأجوج ومأجوج ، لا ينصرفان
. وبعضهم يهمز ألفيهما ، وبعضهم لا يهمزها ؛ قال رؤبة : " لو أن يأجوج ومأجوج
معا " فلم يصرفهما . ( وفي اللسان : أجج ) . هما اسمان أعجميان ، واشتقاق مثلهما
من كلام العرب ، يخرج من أجت النار ، ومن الماء الأجاج ، وهو الشديد الملوحة ، المحرق
من ملوحته . قال : ويكون التقدير في يأجوج : " يفعول " . وكذلك مأجوج . قال
: وهذا لو كان الاسمان عربيان ، لكان هذا اشتقاقهما ؛ فأما الأعجمية فلا تشتق من العربية
. ومن لا يهمز وجعل الألفين زائدتين ، يقول : ياجوج : من يججت ، وماجوج : من مججت وهما
غير مصروفين ؛ قال رؤبة : لو أن ياجوج وماجوج معا ... وعاد عادوا واستجاشوا تبعا.
ومن سنن العرب
ومن سنن العرب جمع
شيئين من اثنين فإذا ذكرت اثنين أن تجريهما مجرى الجمع كما تقول , عند ذكر الحسنين
كرم الله وجوههما . وكما قال الله تعالى : " عن تتوبا إلى الله فقد صغت
قلوبكما " , ولم يقل قلبكما . وقال عز وجل : " والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما " . ولم يقل يديهما .ومن سنن العرب إقامة الواحد مقام الجمع , ومن
سنن العرب في هذا الباب أن يقولوا للرجل العظيم والملك الكبير: انظروا في أمري
(...) , ومن سنن العرب الجمع يراد به الواحد ,..,إلخ إلخ مايمكن ماجاء في كتب اللغة
عند القدماء .
ولذلك كان قولهم
:" إن يأجوج و مأجوج مفسدون " جمعاً للمثنى قياساً على ماتقدم , ودلالته
الفساد في جميع الأحوال .
رأي المفسرين القدماء :
ابن كثير :
أورد
ابن كثير روايات بعد نقدها كيفما كان نقده لها تفيد أنه الإسكندر المقدوني
سبب التسمية
وقال
وهب بن منبه: كان ملكًا، وإنما سمي ذا القرنين لأن؛ صفحتي رأسه كانتا من نحاس.وقال
بعضهم: كان في رأسه شبه القرنين، وأنه كان عبدًا ناصحَ الله فناصَحَه، دعا قومه إلى
الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات،
فسمي ذا القرنين.ويقال: إنه إنما سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ المشارق والمغارب، من حيث
يطلع قرن الشمس ويغرب.
وقد نسبوا إليه الخوارق والأساطير
يقول
كعب الأحبار يقول: إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا . وأن
السحاب سخرت له ، وقَدَّر له الأسباب، وبسط له اليد . أي: الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم
والرَّسَاتيق والبلاد والأراضي وكسر الأعداء، وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك. قد
أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببًا.فَأَتْبَعَ
سَبَبًا , أي أتبع علماً أومنازل الأرض ومعالمها
, أومعالم وآثار كانت قبل ذلك , وطريقًا
حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض , فرأى
الشمس تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه , ووجد عندها أمة عظيمة من بني آدم في مدينة لها اثنا عشر ألف باب، لولا أصوات أهلها
لسمع الناس وُجُوب الشمس حين تجب. { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ
وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا }: إما قتل وسبي، وإما منّ أو فدى . فعرف عدله وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه . فقال
:{ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ } , من استمر على كفره وشركه بربه { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ }
بالقتل: فقد كان يحمي لهم بقر النحاس ويضعهم
فيها حتى يذوبوا. أو كان يسلط الظلمة، فتدخل
أفوافهم وبيوتهم، وتغشاهم من جميع جهاتهم { ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ
عَذَابًا نُكْرًا } { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ } { فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى } ، { وَسَنَقُولُ
لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا } { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ] ,ثم سلك طريقًا فسار من
مغرب الشمس إلى مطلعها ، وكان كلما مرّ بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عز وجل،
فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم، واستباح أموالهم، وأمتعتهم واستخدم من كل أمة
ما يستعين به مع جيوشه على أهل الإقليم المتاخم
لهم. وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفا وستمائة سنة يجوب الأرض طولها والعرض حتى بلغ المشارق والمغارب. ولما انتهى إلى مطلع
الشمس من الأرض كما قال الله تعالى: { وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ }أي: أمة {
لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا }
بشر غير آدميين عراة
أي:
ليس لهم بناء يكنهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس.قال سعيد بن جبير: كانوا
حُمرًا قصارًا، مساكنهم الغيران، أكثر معيشتهم من السمك ويقال: إن أرضهم لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه، فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم.
وأنهم بأرض لا تنبت لهم شيئًا، فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب، حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم . ليس لهم أكنان،
إذا طلعت الشمس طلعت عليهم، فلأحدهم أذنان يفترش إحداهما . ويقال: هم الزنج .لم يبنوا فيها بناء قط، ولم يبن عليهم فيها بناء
قط، كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابًا لهم
حتى تزول الشمس، أو دخلوا البحر، وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل، جاءهم جيش مرة فقال لهم أهلها: لا تطلعن عليكم
الشمس وأنتم بها. قالوا: لا نبرح حتى تطلع الشمس، ما هذه العظام؟ قالوا: هذه جيفُ جيش
طلعت عليهم الشمس هاهنا فماتوا. قال: فذهبوا هاربين في الأرض.
يأجوج و مأجوج
من نسل آدم ( ع ) ولا دخل
لحواء في الأمر أمر خلقهم , فقد خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب، فخلقوا من
ذلك فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم، وليسوا
من حواء.
{ ثُمَّ
أَتْبَعَ سَبَبًا } أي: سلك طريقًا من مشارق
الأرض. { حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } وهما جبلان متناوحان بينهما ثُغْرة
يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيهم فسادًا، ويهلكون الحرث والنسل،
ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم، عليه السلام، كما ثبت في الصحيحين: "إن الله تعالى
يقول: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك. فيقول: ابعث بَعْثَ النار. فيقول: وما بَعْثُ النار؟
فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة؟ فحينئذ يشيب الصغير،
وتضع كل ذات حمل حملها، فيقال: إن فيكم أمّتين، ما كانتا في شيء إلا كثرتاه: يأجوج
ومأجوج".وقد حكى النووي ، رحمه الله،
في شرح "مسلم" عن بعض الناس: أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط
بالتراب، فخلقوا من ذلك فعلى هذا يكونون مخلوقين
من آدم، وليسوا من حواء.وفي مسند الإمام أحمد،
عن سَمُرَة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وَلَدُ نوح ثلاثة: سام أبو
العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك"
. قال بعض العلماء: هؤلاء من نسل يافث أبي الترك، قال: [إنما سموا هؤلاء تركًا؛ لأنهم تركوا من وراء السد من
هذه الجهة، وإلا فهم أقرباء أولئك، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة . وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثرًا
طويلا عجيبًا في سير ذي القرنين، وبنائه السد، وكيفية ما جرى له، وفيه طول وغرابة ونكارة
في أشكالهم وصفاتهم، [وطولهم] وقصر بعضهم، وآذانهم . وروى ابن أبي حاتم أحاديث غريبة في ذلك لا تصح أسانيدها، والله أعلم.
وقوله:
{ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا } [أي] (15) :
لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس ,{ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ
إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا
} قال ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس: أجرًا عظيمًا، يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له
من بينهم مالا يعطونه إياه، حتى يجعل بينهم وبينهم سدًا. فقال ذو القرنين بعفة وديانة
وصلاح وقصد للخير: { مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } أي: إن الذي أعطاني الله
من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه، كما قال سليمان عليه السلام: { أَتُمِدُّونَنِ
بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ
تَفْرَحُونَ } [النمل: 36] وهكذا قال ذو القرنين: الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه،
ولكن ساعدوني { بِقُوَّةٍ } أي: بعملكم وآلات البناء، { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ } والزبر: جمع زُبْرَة، وهي القطعة منه، قاله
ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. وهي كاللبنة ، يقال:
كل لبنة [زنة] قنطار بالدمشقي، أو تزيد عليه.{ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ
} أي: وضع بعضه على بعض من الأساس حتى إذا حاذى به رءوس الجبلين طولا وعرضًا. واختلفوا
في مساحة عرضه وطوله على أقوال. { قَالَ انْفُخُوا } أي: أجج عليه النار حتى صار كله نارًا، { قَالَ آتُونِي
أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، والسُّدي:
هو النحاس. وزاد بعضهم: المذاب. ويستشهد بقوله تعالى: { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ
} [سبأ: 12] ولهذا يشبه بالبرد المحبر.
صفة السد
قال
ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا قال:
يا رسول الله، قد رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال: "انعته لي" قال: كالبرد المحبر،
طريقة سوداء. وطريقة حمراء. قال: "قد رأيته". هذا حديث مرسل.
وقد
بعث الخليفة الواثق في دولته بعض أمرائه، ووجه
معه جيشًا سرية، لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا. فتوصلوا من
بلاد إلى بلاد، ومن مُلْك إلى مُلْك، حتى وصلوا إليه، ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس،
وذكروا أنهم رأوا فيه بابًا عظيمًا، وعليه
أقفال عظيمة، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك. وأن عنده حرسًا من الملوك المتاخمة له، وأنه منيف عال ، شاهق، لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال. ثم رجعوا
إلى بلادهم، وكانت غيبتهم أكثر من سنتين،
وقد روي
موصولا من طرق: فرواه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف من طريق أبي الجماهر -سعيد بن بشير- عن قتادة، عن
رجل، عن أبي بكرة الثقفى: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى قد رأيته،
فذكر نحوه. ورواه البزار في مسنده كما في تخريج الكشاف من طريق عبد الملك بن أبي نعامة عن يوسف بن أبي
مريم، عن أبي بكرة بنحوه مطولا. ورواه ابن مردويه أيضا من طريق سفيان، عن سعيد بن أبي
عروبة، عن قتادة، عن رجل من أهل المدينة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
{ قَالَ
هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ
وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) } .
يقول
تعالى مخبرًا عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا فوق هذا السد ولا قدروا
على نقبه من أسفله. ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلا بما يناسبه فقال:
{ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا } وهذا دليل
على أنهم لم (2) يقدروا على نقبه، ولا على شيء منه.
فأما
الحديث الذي رواه الإمام أحمد:حدثنا روح، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، حدثنا
أبو رافع، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن يأجوج ومأجوج
ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه
غدًا فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس [حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس] قال الذي
عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدًا إن شاء الله. ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس، فينشفون المياه، ويتحصن الناس منهم في
حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء، [فترجع وعليها هيئة الدم، فيقولون: قهرنا أهل الأرض
وعلونا أهل السماء]. فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم، فيقتلهم بها. قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، إن دواب الأرض لتسمن، وتشكر شكرًا من لحومهم ودمائهم" .
" إن شاء الله " تلهمهم
فتح الردم
وهذا
إسناده قوي، ولكن في رفعه نكارة؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه
ولا من نقبه، لإحكام بنائه وصلابته وشدته. ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار: أنهم قبل
خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا
القليل، فيقولون: غدًا نفتحه. فيأتون من الغد وقد عاد كما كان، فيلحسونه حتى لا يبقى
منه إلا القليل، فيقولون كذلك، ويصبحون وهو
كما كان، فيلحسونه ويقولون: غدًا نفتحه. ويلهمون أن يقولوا: "إن شاء الله"،
فيصبحون وهو كما فارقوه، فيفتحونه. وهذا مُتَّجه، ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب. فإنه
كثيرًا ما كان يجالسه ويحدثه، فحدث به أبو هريرة، فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع، فرفعه، والله أعلم.
نجحوا في فتح شيء من الردم
ويؤكد
ما قلناه - من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا
نقب شيء منه، ومن نكارة هذا المرفوع-قول الإمام أحمد:حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة،
عن [زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن أمها أم حبيبة، عن]
زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم -قال سفيان: أربع نسوة-قالت: استيقظ النبي
صلى الله عليه وسلم من نومه. وهو محمر وجهه، وهو يقول: "لا إله إلا الله! ويل
للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج
ومأجوج مثل هذا". وحَلَّق. قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال:
"نعم إذا كثر الخبث".
وقد
روي نحو هذا عن أبي هريرة أيضًا، فقال البزار: حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا مُؤمَّل
بن إسماعيل، حدثنا وهيب ، عن ابن طاوس، عن
أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فُتِح اليوم من ردم
يأجوج ومأجوج مثل هذا" وعقد التسعين. وأخرجه البخاري ومسلم من حديث وهيب ، به
.
وقوله:
{ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } أي: لما بناه ذو القرنين { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ
مِنْ رَبِّي } أي: بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العيث في الأرض والفساد. { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي
} أي: إذا اقترب الوعد الحق { جَعَلَهُ دَكَّاءَ } أي: ساواه بالأرض. وقال عكرمة في قوله: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ } قال: طريقًا كما كان.{ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا }
أي: كائنًا لا محالة.
وقوله:
{ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ [ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ] } أي: الناس يومئذ أي: يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس ويفسدون
على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم، وهكذا قال السدي في قوله: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ
يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال: ذاك حين يخرجون على الناس. وهذا كله قبل يوم
القيامة وبعد الدجال، كما سيأتي بيانه [إن شاء الله تعالى] عند قوله: { حَتَّى إِذَا
فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ
الْوَعْدُ الْحَقُّ } [الأنبياْ: 96 ، 97] وهكذا قال هاهنا: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ
يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } قال
ابن زيد في قوله: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال: هذا
أول يوم القيامة، { وَنُفِخَ (7) فِي الصُّورِ } على أثر ذلك { فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا
} .
وقال
آخرون: بل المراد بقوله: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ
} أي: يوم القيامة يختلط الإنس والجن.
وروى
ابن جرير، عن محمد بن حميد، عن يعقوب القمي
عن هارون بن عنترة، عن شيخ من بني فزارة
في قوله: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال: إذا
ماج الإنس والجن قال إبليس: أنا أعلم لكم علم هذا الأمر. فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة
قد بطنوا الأرض، ثم يظعن إلى المغرب فيجد الملائكة بطنوا الأرض فيقول: "ما من محيص". ثم يظعن يمينًا
وشمالا إلى أقصى الأرض فيجد الملائكة بطنوا الأرض فيقول: "ما من محيص" فبينما
هو كذلك، إذ عرض له طريق كالشراك، فأخذ عليه هو وذريته، فبينما هم عليه إذ هجموا على
النار، فأخرج الله خازنًا من خزان النار، فقال: يا إبليس، ألم تكن لك المنزلة عند ربك؟!
ألم تكن في الجنان؟! فيقول: ليس هذا يوم عتاب، لو أن الله فرض عليّ فريضة لعبدته فيها
عبادة لم يعبده مثلها أحد من
خلقه.
فيقول: فإن الله قد فرض عليك فريضة. فيقول: ما هي؟ فيقول: يأمرك أن تدخل النار. فيتلكأ
عليه، فيقول به وبذريته بجناحيه فيقذفهم في النار. فتزفر النار زفرة لا يبقى ملك مقرب
ولا نبي مُرسل إلا جثا لركبتيه
وهكذا
رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. رواه من وجه آخر عن يعقوب، عن هارون عن
عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ
} قال: الجن الإنس، يموج بعضهم في بعض.
عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، ولو أرسلوا لأفسدوا على
الناس معايشهم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا، وإن من ورائهم ثلاث
أمم: تاويل، وتايس ومنسك". هذا حديث غريب
بل منكر ضعيف.
وروى
النسائي من حديث شعبة عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن أبيه، عن جده أوس بن
أبي أوس مرفوعًا: "إن يأجوج ومأجوج لهم نساء، يجامعون ما شاؤوا، وشجر يلقحون ما
شاؤوا، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا" .
هل الصور قرن ينفخ فيه
وقوله:
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ } : والصور كما جاء في الحديث: "قرن ينفخ" فيه والذي
ينفخ فيه إسرافيل، عليه السلام، كما قد تقدم في الحديث بطوله، والأحاديث فيه كثيرة.
وفي
الحديث عن عطية، عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعًا: "كيف أنعم، وصاحب القَرْن قد
التقم القَرْن، وحنى جبهته واستمع متى يؤمر". قالوا: كيف نقول؟ قال: "قولوا:
حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا".
وقوله
{ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } أي: أحضرنا الجميع للحساب { قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ
لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [الواقعة: 49 ، 50]، { وَحَشَرْنَاهُمْ
فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [الكهف: 47].
القرطبي
قال ابن إسحاق: وكان من خبر ذي القرنين
أنه أوتى ما لم يؤت غيره، فمدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها،
لا يطأ أرضا إلا سلط على أهلها، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شيء
من الخلق.
ذو القرنين من أهل مصر
قال ابن إسحاق: حدثني من يسوق الأحاديث عن الأعاجم
فيما توارثوا من علم ذي القرنين أن ذا القرنين كان من أهل مصر اسمه مرزبان بن مردبة
اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح.
قال ابن هشام: اسمه الإسكندر .وهو
الذي بنى الإسكندرية فنسبت إليه.
ذو القرنين من الملائكة
قال ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل
عن ذي القرنين فقال: "ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب" . وسمع عمر بن الخطاب
رضي الله تعالى عنه رجلا يقول يا ذا القرنين، فقال: "اللهم غفرا أما رضيتم أن
تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة" قال ابن إسحاق: فالله أعلم
أي ذلك كان؟ أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أم لا؟ والحق ما قال. وقد روي عن
علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه مثل قول عمر؛ سمع رجل يدعو آخر يا ذا القرنين،
فقال علي: "أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة"
,
ذو القرنين ملك
وعنه أي علي بن أبي طالب أنه عبد ملك "بكسر اللام" صالح نصح الله
فأيده.
ذو القرنين نبي
وقيل: هو نبي مبعوث فتح الله تعالى على يديه الأرض.
وذكر الدار قطني في كتاب الأخبار أن ملكا يقال له
رباقيل كان ينزل على ذي القرنين ، وذلك الملك هو الذي يطوي الأرض يوم القيامة، وينقضها
فتقع أقدام الخلائق كلهم بالساهرة؛ فيما ذكر بعض أهل العلم. وقال السهيلي: وهذا مشاكل
بتوكيله بذي القرنين الذي قطع الأرض مشارقها ومغاربها؛ كما أن قصة خالد بن سنان في
تسخير النار له مشاكلة بحال الملك الموكل بها، وهو مالك عليه السلام وعلى جميع الملائكة
أجمعين. ذكر ابن أبي خيثمة في كتاب البدء له خالد بن سنان العبسي وذكر نبوته، وذكر
أنه وكل به من الملائكة مالك خازن النار، وكان من أعلام نبوته أن نارا يقال لها نار
الحدثان، كانت تخرج على الناس من مغارة فتأكل الناس ولا يستطيعون ردها، فردها خالد
بن سنان فلم تخرج بعد.
إسم ذي القرنين
واختلف في اسم ذي القرنين وفي السبب الذي سمي به
بذلك فقيل: هو الإسكندر الملك اليوناني المقدوني،
وقد تشدد قافه فيقال: المقدوني. وقيل: اسمه هرمس. ويقال: اسمه هرديس. وقال ابن هشام:
هو الصعب ابن ذي يزين الحميري من ولد وائل بن حمير؛
وقد تقدم قول ابن إسحاق. وقال وهب بن منبه: هو رومي. وذكر الطبري حديثا عن النبي عليه
الصلاة والسلام "أن ذا القرنين شاب من الروم" وهو حديث واهي السند؛ قال ابن
عطية. قال السهيلي: والظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان: أحدهما: كان على عهد إبراهيم
عليه السلام، ويقال: إنه الذي قضى لإبراهيم عليه السلام حين تحاكموا إليه في بئر السبع
بالشام. والآخر: أنه كان قريبا من عهد عيسى عليه السلام. وقيل: إنه أفريدون الذي قتل
بيوراسب بن أرونداسب الملك الطاغي على عهد إبراهيم عليه السلام، أو قبله بزمان.
سبب التسمية
وأما الاختلاف في السبب الذي سمي به، فقيل: إنه كان
ذا ضفيرتين من شعر فسمي بهما؛ ذكره الثعلبي وغيره. والضفائر قرون الرأس؛ ومنه قول الشاعر:
فلثمت فاها آخذا بقرونها شرب
النزيف ببرد ماء الحشرج
وقيل: إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على
قرني الشمس، فقص ذلك، ففسر أنه سيغلب ما ذرت عليه الشمس، فسمي بذلك ذا القرنين. وقيل:
إنما سمي بذلك، لأنه بلغ المغرب والمشرق فكأنه حاز قرني الدنيا. وقالت طائفة: إنه لما
بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرونها فسمي بذلك ذا القرنين؛ أو قرني الشيطان بها. وقال
وهب بن منبه: كان له قرنان تحت عمامته. وسأل ابن الكواء عليا رضي الله تعالى عنه عن
ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا؟ فقال"لاذا ولاذا، كان عبد ا صالحا دعا قومه إلى
الله تعالى فشجوه على قرنه، ثم دعاهم فشجوه على قرنه الآخر، فسمي ذا القرنين"
واختلفوا أيضا في وقت زمانه، فقال قوم: كان بعد موسى. وقال قوم: كان في الفترة بعد
عيسى وقيل: كان في وقت إبراهيم وإسماعيل. وكان الخضر عليه السلام صاحب لوائه الأعظم؛
وفد ذكرناه في "البقرة". وبالجملة فإن الله تعالى مكنه وملكه ودانت له الملوك،
فروي أن جميع ملوك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران؛ فالمؤمنان سليمان
بن داود وإسكندر، والكافران نمرود وبختنصر؛ وسيملكها من هذه الأمة خامس لقوله تعالى:
{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} وهو المهدي وقد قيل: إنما سمي ذا القرنين لأنه
كان كريم الطرفين من أهل بيت شريف من قبل أبيه وأمه وقيل: لأنه أنقرض في وقته قرنان
من الناس وهو حي وقيل: لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعا. وقيل لأنه أعطي
علم الظاهر والباطن. وقيل: لأنه دخل الظلمة والنور. وقيل: لأنه ملك فارس والروم.
ونسبوا إليه الخوارق
قوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي
الأَرْضِ} قال علي رضي الله عنه: "سخر له السحاب، ومدت له الأسباب، وبسط له في
النور، فكان الليل والنهار عليه سواء" وفي حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال لرجال من أهل الكتاب سألوه عن ذي القرنين فقال: "إن أول أمره كان
غلاما من الروم فأعطي ملكا فسار حتى أتى أرض مصر فابتنى بها مدينة يقال لها الإسكندرية
فلما فرغ أتاه ملك فعرج به فقال له أنظر ما تحتك قال أرى مدينتي وحدها لا أرى غيرها
فقال له الملك تلك الأرض كلها وهذا السواد الذي تراه بها هو البحر وإنما أراد الله
تعالى أن يريك الأرض وقد جعل لك سلطانا فيها فسر في الأرض. فعلم الجاهل وثبت العالم"
الحديث.
قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
سَبَباً} قال ابن عباس: "من كل شيء علما يتسبب به إلى ما يريد" وقال الحسن:
بلاغا إلى حيث أراد. وقيل: من كل شيء يحتاج إليه الخلق. وقيل: من كل شيء يستعين به
الملوك من فتح المدائن وقهر الأعداء. وأصل السبب الحبل فاستعير لكل ما يتوصل به إلى
شيء.
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي
"فأتبع سببا" مقطوعة الألف وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو "فاتبع سببا"
بوصلها؛ أي اتبع سببا من الأسباب التي أوتيها. قال الأخفش: تبعته وأتبعته بمعنى؛ مثل
ردفته وأردفته، ومنه قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ
ثَاقِبٌ} ومنه الإتباع في الكلام مثل حسن بسن وقبيح شقيح. قال النحاس: واختار أبو عبيد
قراءةأهل الكوفة قال: لأنها من السير، وحكى هو والأصمعي أنه يقال: تبعه واتبعه إذا
سار ولم يلحقه، وأتبعه إذا لحقه؛ قال أبو عبيد: ومثله {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ}
قال النحاس: وهذا التفريق إن كان الأصمعي قد حكاه لا يقبل إلا بعلة أو دليل. وقوله
عز وجل: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} ليس في الحديث أنهم لحقوهم، وإنما الحديث: لما
خرج موسى عليه السلام وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه انطبق عليهم البحر والحق
في هذا أن تبع وأتبع وأتبع لغات بمعنى واحد، وهي بمعنى السير، فقد يجوز أن يكون معه
لحاق وألا يكون.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ
الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قرأ ابن عاصم وعام وحمزة والكسائي
{حامية} أي حارة. الباقون {حَمِئَةٍ} أي كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء، تقول: حمأت
البئر حمأ "بالتسكين" إذا نزعت حمأتها. وحمئت البئر حمأ "بالتحريك"
كثرت حمأتها. ويجوز أن تكون "حامية" من الحمأة فخففت الهمزة وقلبت ياء. وقد
يجمع بين القراءتين فيقال: كانت حارة وذات حمأة. وقال عبد الله بن عمرو: نظر النبي
صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غربت؛ فقال: "نار الله الحامية لولا ما يزعها
من أمر الله لأحرقت ما على الأرض" . وقال ابن عباس: "أقرأنيها أبي كما أقرأه
رسول الله صلى الله عليه وسلم {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ؛ وقال معاوية: هي "حامية"
فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: فأنا مع أمير المؤمنين؛ فجعلوا كعبا بينهم حكما وقالوا:
يا كعب كيف تجد هذا في التوراة؟ فقال: أجدها تغرب في عين سوداء، فوافق ابن عباس"
وقال الشاعر وهو تبع اليماني:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلما
ملكا تدين له الملوك وتسجد
بلغ المغارب والمشارق يبتغي
أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها
في عين ذي خلب وثأط حرمد
الخلب: الطين: والثأط: الحماة. والحرمد.
والأسود. وقال القفال قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا
وصل إلى جرمها ومسها؛ لأنها تدورمع السماء حول الأرض من غير أن تلتصق بالأرض، وهي أعظم
من أن تدخل في عين من عيون الأرض، بل هي أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة، بل المراد أنه
انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها في رأي العين تغرب في
عين حمئة، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض؛ ولهذا قال: {وَجَدَهَا
تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً} ولم يرد أنها تطلع
عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم. وقال القتبي: ويجوز أن
تكون هذه العين من البحر، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها أو معها أو عندها، فيقام
حرف الصفة مقام صاحبه والله أعلم.
قوله تعالى: {وَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً}
أي عند العين، أو عند نهاية العين، وهم أهل جابرس، ويقال لها بالسريانية: جرجيسا؛ يسكنها
قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح؛ ذكره السهيلي. وقال وهب بن منبه:
"كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه
الإسكندر، فلما بلغ وكان عبد ا صالحا قال الله تعالى: يا ذا القرنين إني باعثك إلى
أمم الأرض وهم أمم مختلفة ألسنتهم، وهم أمم جميع الأرض، وهم أصناف: أمتان بينهما طول
الأرض كله، وأمتان بينهما عرض الأرض كله، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج
ومأجوج؛ فأما اللتان بينهما طول الأرض فأمة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، وأما الأخرى
فعند مطلعها ويقال لها منسك. وأما اللتان بينهما عرض الأرض فأمة في قطر الأرض الأيمن
يقال لها هاويل؛ وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر يقال لها تاويل. فقال ذو القرنين:
إلهي قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت؛ فأخبرني عن هذه الأمم بأي قوة أكاثرهم؟
وبأي صبر أقاسيهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ فكيف لي بأن أفقه لغتهم وليس عندي قوة؟ فقال
الله تعالى: سأظفرك بما حملتك؛ أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء، وأثبت لك فهمك فتفقه كل
شيء، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلمة فيكونان جندا من جنودك،
يهديك النور من أمامك، وتحفظك الظلمة من ورائك؛ فلما قيل له ذلك سار بمن اتبعه، فانطلق
إلى الأمة التي عند مغرب الشمس؛ لأنها كانت
أقرب الأمم منه وهي ناسك، فوجد جموعا لا يحصيها إلا الله تعالى وقوة وبأسا لا يطيقه
إلا الله. وألسنة مختلقة، وأهواء متشتتة فكاثرهم بالظلمة؛ فضرب حولهم ثلاث عساكر من
جند الظلمة قدر ما أحاط بهم من كل مكان، حتى جمعتهم في مكان واحد، ثم دخل عليهم بالنور
فدعاهم إلى الله تعالى وإلى عبادته، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر وصد عنه، فأدخل على
الذين تولوا الظلمة فغشيتهم من كل مكان، فدخلت إلى أفواههم وأنوفهم وأعينهم وبيوتهم
وغشيتهم من كل مكان، فتحيروا وماجوا وأشفقوا أن يهلكوا، فعجوا إلى الله تعالى بصوت
واحد: إنا آمنا؛ فكشفها عنهم، وأخذهم عنوة، ودخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب أمما
عظيمة فجعلهم جندا واحدا، ثم انطلق بهم يقودهم، والظلمة تسوقهم وتحرسه من خلفه، والنور
أمامهم يقوده ويدله، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى يريد الأمة التي في قطر الأرض
الأيمن وهى هاويل، وسخر الله تعالى يده وقلبه وعقله ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملا، فإذا
أتوا مخاضة أو بحرا بنى سفنا من ألواح صغار مثل النعال فنظمها في ساعة، ثم جعل فيها
جميع من معه من تلك الأمم، فإذا قطع البحار والأنهار فتقها ودفع إلى كل رجل لوحا فلا
يكترث بحمله، فانتهى إلى هاويل وفعل بهم كفعله بناسك فآمنوا، ففرغ منهم، وأخذ جيوشهم
وانطلق إلى ناحية الأرض الأخرى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فيها وجند
منها جنودا كفعله في الأولى، ثم كر مقبلا حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى يريد تاويل، وهي
الأمة التي تقابل هاويل بينهما عرض الأرض، ففعل فيها كفعله فيما قبلها،
ثم عطف إلى الأمم التي في وسط الأرض من
الجن الإنس ويأجوج ومأجوج، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك من المشرق قالت
أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله تعالى كثيرا
لهم عدد، وليس فيهم مشابهة من الإنس، وهم أشباه البهائم؛ يأكلون العشب، ويفترسون الدواب
والوحش كما تفترسها السباع، ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيات والعقارب والوزغ وكل
ذي روح مما خلق الله تعالى في الأرض، وليس لله تعالى خلق ينمو نماءهم في العام الواحد،
فإن طالت المدة فسيملؤون الأرض، ويجلون أهلها فهل نجعل
لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا؟..." وذكر الحديث؛ وسيأتي من صفة يأجوج
ومأجوج والترك إذ هم نوع منهم ما فيه كفاية.
قوله تعالى: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ}
قال القشيري أبو نصر: إن كان نبيا فهو وحي، وإن لم يكن نبيا فهو إلهام من الله تعالى.
{إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} قال إبراهيم بن السري:
خيره بين هذين كما خير محمدا صلى الله عليه وسلم فقال: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ونحوه. وقال أبو إسحاق الزجاج: المعنى أن الله
تعالى خيره بين هذين الحكمين؛ قال النحاس: وردّ علي بن سليمان عليه قوله؛ لأنه لم يصح
أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا، فكيف يقول لربه عز وجل: "ثم يرد إلى ربه"؟
وكيف يقول: {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} فيخاطب بالنون؟ قال: التقدير؛ قلنا يا محمد قالوا
يا ذا القرنين. قال أبو جعفر النحاس: هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شيء. أما
قوله: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} فيجوز أن يكون الله عز وجل خاطبه على لسان نبي
في وقته، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال لنبيه: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا
فِدَاءً} وأما إشكال {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ} فإن تقديره
أن الله تعالى خيره بين القتل في قوله تعالى: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} وبين الاستبقاء
في قوله جل وعز: {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} . قال أحمد بن يحيى:
"أن" في موضع نصب في {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ
حُسْناً} قال: ولو رفعت كان صوابا بمعنى فإما هو، كما قال:
فسيرا فإما حاجة تقضيانها
وإما مقيل صالح وصديق
قوله تعالى: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ}
أي من أقام على الكفر منكم، {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي بالقتل {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى
رَبِّهِ} أي يوم القيامة: {فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً} أي شديدا في جهنم. {وَأَمَّا
مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أي تاب من الكفر {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ
لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى}
بالرفع على الابتداء أو بالاستقرار و {الْحُسْنَى} موضع خفض بالإضافة ويحذف التنوين
للإضافة؛ أي له جزاء الحسنى عند الله تعالى في الآخرة وهي الجنة، فأضاف الجزاء إلى
الجنة، كقوله: {حَقُّ الْيَقِينِ} {وَلَدَارُ الآخِرَةِ}
قاله الفراء. ويحتمل أن يريد بـ {الْحُسْنَى} الأعمال الصالحة ويمكن أن يكون الجزاء
من ذي القرنين؛ أي أعطيه وأتفضل عليه ويجوز أن يحذف التنوين لالتقاء الساكنين ويكون
"الحسنى" في موضع رفع على البدل عند البصريين، وعلى الترجمة عند الكوفيين،
وعلى هذا قراءة ابن أبي إسحاق {فله جزاء الحسنى} إلا أنك لم تحذف التنوين، وهو أجود.
وقرأ سائر الكوفيين {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} منصوبا منونا؛ أي فله الحسنى جزاء
قال الفراء: "جزاء" منصوب على التمييز وقيل: على المصدر؛ وقال الزجاج: هو
مصدر في موضع الحال؛ أي مجزيا بها جزاء وقرأ ابن عباس ومسروق {فله جزاء الحسنى} منصوبا
غير منون وهي عند أبي حاتم على حذف التنوين لالتقاء الساكنين مثل {فله جزاء الحسنى}
في أحد الوجهين. النحاس: وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين
ويكون تقديره: فله الثواب جزاء الحسنى.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} تقدم
معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك طريقا ومنازل.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ
الشَّمْسِ} وقرأ مجاهد وابن محيصن بفتح الميم واللام؛ يقال: طلعت الشمس والكواكب طلوعا
ومطلعا. والمطلَع والمطلِع أيضا موضع طلوعها قاله الجوهري. {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى
قَوْمٍ} المعنى أنه انتهى إلى موضع قوم لم يكن بينهم وبين مطلع الشمس أحد من الناس.
والشمس تطلع وراء ذلك بمسافة بعيدة وقد اختلف فيهم؛ فعن وهب بن منبه ما تقدم، وأنها
أمة يقال لها منسك وهي مقابلة ناسك؛ وقال مقاتل وقال قتادة: يقال لهما الزنج وقال الكلبي:
هم تارس وهاويل ومنسك؛ حفاة عراة عماة عن الحق، يتسافدون مثل الكلاب، ويتهارجون تهارج
الحمر. وقيل: هم أهل جابلق وهم من نسل مؤمني عاد الذين آمنوا بهود، ويقال لهم بالسريانية
مرقيسا والذين عند مغرب الشمس هم أهل جابرس؛ ولكل واحدة من المدينتين عشرة آلاف باب،
وبين كل باب فرسخ ووراء جابلق أمم وهم تافيل وتارس وهم يجاورون يأجوج ومأجوج وأهل
جابرس وجابلق آمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ؛ مر بهم ليلة الإسراء فدعاهم فأجابوه،
ودعا الأمم الآخرين فلم يجيبوه؛ ذكره السهيلي وقال: اختصرت هذا كله من حديث طويل رواه
مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الطبري مسندا
إلى مقاتل يرفعه؛ والله أعلم.
قوله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ
دُونِهَا سِتْراً} أي حجابا يستترون منها عند طلوعها. قال قتادة: لم يكن بينهم وبين
الشمس سترا؛ كانوا في مكان لا يستقر عليه بناء، وهم يكونون في أسراب لهم، حتى إذا زالت
الشمس عنهم رجعوا إلى معايشهم وحروثهم؛ يعني لا يستترون منها بكهف جبل ولا بيت يكنهم
منها. وقال أمية: وجدت رجالا بسمرقند يحدثون الناس، فقال بعضهم: خرجت حتى جاوزت الصين،
فقيل لي: إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فاستأجرت رجلا يرينيهم حتى صبحتهم، فوجدت
أحدهم يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى، وكان صاحبي يحسن كلامهم، فبتنا بهم، فقالوا: فيم
جئتم؟ قلنا: جئنا ننظر كيف تطلع الشمس؛ فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة، فغشي
على ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء إذ هي على الماء كهيئة
الزيت، وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط، فلما ارتفعت أدخلوني سربا لهم، فلما ارتفع النهار
وزالت الشمس عن رؤوسهم خرجوا يصطادون السمك، فيطرحونه في الشمس فينضج. وقال ابن جريج:
جاءهم جيش مرة، فقال لهم أهلها: لا تطلع الشمس وأنتم بها، فقالوا: ما نبرح حتى تطلع
الشمس. ثم قالوا: ما هذه العظام؟ قالوا: هذه والله عظام جيش طلعت عليهم الشمس ههنا
فماتوا قال: فولوا هاربين في الأرض. وقال الحسن: كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، وكانت
لا تحمل البناء، فإذا طلعت عليهم الشمس نزلوا في الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا، فيتراعون
كما تتراعى البهائم.
قلت: وهذه الأقوال تدل على أن مدينة هناك
والله أعلم. وربما يكون منهم من يدخل في النهر ومنهم من يدخل في السرب فلا تناقض بين
قول الحسن وقتادة.
[92] {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً}
تقدم معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك
طريقا ومنازل.
[93] {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ
وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً}
[94] {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى
أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً}
[95] {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي
خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً}
[96] {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى
إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ
آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً}
[97] {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ
وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً}
{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا
جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً}
قوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى
إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} وهما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان. روى عطاء
الخراساني عن ابن عباس: {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} الجبلين أرمينية وأذربيجان {وَجَدَ مِنْ
دُونِهِمَا} أي من ورائهما. {قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} وقرأ حمزة
والكسائي {يَفْقَهُونَ} بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان أي لا يفقهون غيرهم
كلاما. الباقون بفتح الياء والقاف، أي يعلمون. والقراءتان صحيحتان، فلا هم يفقهون من
غيرهم ولا يفقهون غيرهم.
قوله تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ}
أي قالت له أمة من الإنس صالحة. {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ}
قال الأخفش: من همز "يأجوج" فجعل الألفين من الأصل يقول: يأجوج يفعول ومأجوج
مفعول كأنه من أجيج النار. قال: ومن لا يهمز ويجعل الألفين زائدتين يقول: "ياجوج"
من يججت وماجوج من مججت وهما غير مصروفين؛ قال رؤبة:
لو أن يأجوج ومأجوج معا
وعاد عاد واستجاشوا تبعا
إشتقاق الإسم
ذكره الجوهري. وقيل: إنما لم ينصرفا لأنهما
اسمان أعجميان، مثل طالوت وجالوت غير مشتقين؛ علتاهما في منع الصرف العجمة والتعريف
والتأنيث. وقالت فرقة: هو معرب من أج وأجج علتاهما في منع الصرف التعريف والتأنيث.
وقال أبو علي: يجوز أن يكونا عربيين؛ فمن همز "يأجوج" فهو على وزن يفعول
مثل يربوع، من قولك أجت النار أي ضويت، ومنه الأجيج، ومنه ملح أجاج، ومن لم يهمز أمكن
أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفا مثل رأس، وأما "مأجوج" فهو مفعول من أج،
والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق ومن لم يهمز فيجوز أن يكون خفف الهمزة، ويجوز أن
يكون فاعولا من مج، وترك الصرف فيهما للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة. واختلف في
إفسادهم؛ سعيد بن عبد العزيز: إفسادهم أكل بني آدم. وقالت فرقة: إفسادهم إنما كان متوقعا،
أي سيفسدون، فطلبوا وجه التحرز منهم. وقالت فرقة: إفسادهم هو الظلم والغشم والقتل وسائر
وجوه الإفساد المعلوم من البشر، والله أعلم. وقد وردت أخبار بصفتهم وخروجهم وأنهم ولد
يافث. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولد لنوح سام وحام ويافث
فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة
ولا خير فيهم وولد حام القبط والبربر والسودان". وقال كعب الأحبار: احتلم آدم
عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فأسف فخلقوا من ذلك الماء، فهم متصلون بنا من جهة
الأب لا من جهة الأم. وهذا فيه نظر؛ لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يحتلمون، وإنما
هم من ولد يافث، وكذلك قال مقاتل وغيره. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل" . يعني يأجوج ومأجوج.
وقال أبو سعيد: "هم خمس وعشرون قبيلة من وراء يأجوج ومأجوج لا يموت الرجل من هؤلاء
ومن يأجوج ومأجوج حتى يخرج من صلبه ألف رجل" ذكره القشيري. وقال عبد الله بن مسعود:
سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال، عليه الصلاة والسلام:
"يأجوج ومأجوج أمتان كل أمة أربعمائة ألف أمة كل أمة لا يعلم عددها إلا الله لا
يموت الرجل منهم حتى يولد له ألف ذكر من صلبه كلهم
قد حمل السلاح" قيل: يا رسول الله صفهم لنا. قال: "هم ثلاثة أصناف صنف منهم
أمثال الأرز - شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع - وصنف عرضه وطوله سواء نحوا
من الذراع وصنف يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه
ويأكلون من مات منهم مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار الشرق وبحيرة طبرية
فيمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس" . وقال علي رضي الله تعالى عنه:
"وصنف منهم في طول شبر، لهم مخالب وأنياب السباع، وتداعي الحمام، وتسافد البهائم،
وعواء الذئاب، وشعور تقيهم الحر والبرد، وآذان عظام إحداها وبرة يشتون فيها، والأخرى
جلدة يصيفون فيها، ويحفرون السد حتى كادوا ينقبونه فيعيده الله كما كان، فيقولون: ننقبه
غدا إن شاء الله تعالى فينقبونه ويخرجون، ويتحصن الناس بالحصون، فيرمون إلى السماء
فيرد السهم عليهم ملطخا بالدم، ثم يهلكم الله تعالى بالنغف في رقابهم". ذكره الغزنوي.
وقال علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يأجوج أمة لها أربعمائة أمير وكذا مأجوج
لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده" .
قلت: وقد جاء مرفوعا من حديث أبي هريرة،
خرجه ابن ماجه في السنن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يأجوج ومأجوج
يحفران كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا
فيعيده الله أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس حفروا
حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله تعالى فاستثنوا
فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحقرونه ويخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن
الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع عليها الدم - الذي أحفظ - فيقولون
قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله تعالى عليهم نغفا في أقفائهم فيقتلهم
بها” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن
وتشكر شكرا من لحومهم" قال الجوهري
شكرت الناقة تشكر شكرا فهي شكرة؛ وأشكر
الضرع امتلأ لبنا.
وقال وهب بن منبه: رآهم ذو القرنين، وطول
الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخاليب في مواضع الأظفار وأضراس وأنياب
كالسباع، وأحناك كأحناك الإبل، وهم هلب عليهم من الشعر ما يواريهم، ولكل واحد منهم
أذنان عظيمتان، يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى، وكل واحد منهم قد عرف أجله لا يموت حتى
يخرج له من صلبه ألف رجل إن كان ذكرا، ومن رحمها ألف أنثى إن كانت أنثى. وقال السدي
والضحاك: الترك شرذمة من يأجوج ومأجوج خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت
في هذا الجانب. قال السدي: بني السد على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة واحدة
دون السد فهم الترك قاله قتادة.
قلت: وإذا كان هذا فقد نعت النبي صلى الله
عليه وسلم الترك كما نعت يأجوج ومأجوج، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تقوم الساعة
حتى يقاتل المسلمون الترك قوما وجوههم كالمجان المطرقة يلبسون الشعر ويمشون في الشعر"
في رواية "ينتعلون الشعر" خرجه مسلم وأبو داود وغيرهما. ولما علم النبي صلى
الله عليه وسلم عددهم وكثرتهم وحدة شوكتهم قال عليه الصلاة والسلام: "اتركوا الترك
ما تركوكم" . وقد خرج منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا الله تعالى، ولا يردهم
عن المسلمين إلا الله تعالى، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم. وروى أبو داود عن
أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه
البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر يكثر أهلها وتكون من أمصار المهاجرين -
قال ابن يحيى قال أبو معمر وتكون من أمصار المسلمين فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو
قنطوراء عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شاطئ النهر فيتفرق أهلها ثلاث فرق
فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا وفرقة يجعلون
ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشهداء" الغائط المطمئن من الأرض والبصرة
الحجارة الرخوة وبها سميت البصرة وبنو قنطوراء هم الترك يقال: إن قنطوراء اسم جارية
كانت لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، ولدت له أولادا جاء من نسلهم الترك.
قوله تعالى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً
عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} فيه مسألتان:
الأولى ـ قوله تعالى: {فَهَلْ نَجْعَلُ
لَكَ خَرْجاً} استفهام على جهة حسن الأدب "خرجا" أي جعلا وقرئ "خراجا"
والخرج أخص من الخراج يقال: أد خرج رأسك وخراج مدينتك وقال الأزهري: الخراج يقع على
الضريبة، ويقع على مال الفيء، ويقع على الجزية وعلى الغلة والخراج اسم لما يخرج من
الفرائض في الأموال. والخرج: المصدر. {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ
سَدّاً} أي ردما؛ والردم ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل وثوب مردم أي مرقع قال الهروي
يقال: ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردما أي سددتها والردم أيضا الاسم وهو السد وقيل:
الردم أبلغ من السد إذ السد كل ما يسد به والردم وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب
أو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع ومنه ردم ثوبه إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق
بعض ومنه قول عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم
أي من قول يركب بعضه على بعض وقرئ
"سدا" بالفتح في السين، فقال الخليل وسيبويه: الضم هو الاسم والفتح المصدر.
وقال الكسائي: الفتح والضم لغتان بمعنى واحد وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة:
ما كان من خلقة الله لم يشاركه فيه أحد بعمل فهو بالضم، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح.
ويلزم أهل هذه المقالة أن يقرؤوا "سدا" بالفتح وقبله "بين السدين"
بالضم، وهي قراءة حمزة والكسائي. وقال أبو حاتم عن ابن عباس وعكرمة عكس ما قال أبو
عبيدة. وقال ابن أبي إسحاق: ما رأته عيناك فهو سد بالضم وما لا ترى فهو سد بالفتح.
الثانية ـ في هذه الآية دليل على اتخاذ
السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه، ولا يتركون وما هم عليه،
بل يوجعون ضربا ويحبسون أو يكلفون ويطلقون كما فعل عمر رضي الله عنه.
قوله تعالى: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ
رَبِّي خَيْرٌ} فيه مسألتان
[الأولى] قوله تعالى: {قَالَ مَا مَكَّنِّي
فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} المعنى قال لهم ذو القرنين ما بسطه الله تعالى لي من القدرة والملك
خير من خرجكم وأموالكم ولكن أعينوني بقوة الأبدان، أي برجال وعمل منكم بالأبدان، والآلة
التي أبني بها الردم وهو السد وهذا تأييد من الله تعالى لذي القرنين في هذه المحاورة
فإن القوم لو جمعوا له خرجا لم يعنه أحد ولو كلوه إلى البنيان ومعونته بأنفسهم أجمل
به وأسرع في انقضاء هذا العمل وربما أربى ما ذكروه له على الخرج. وقرأ ابن كثير وحده
{ما مكنني} بنونين. وقرأ الباقون {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي}
[الثانية] في هذه الآية دليل على أن الملك
فرض عليه أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم، وسد فرجتهم، وإصلاح ثغورهم، من أموالهم
التي تفيء عليهم، وحقوقهم التي تجمعها خزانتهم تحت يده ونظره، حتى لو أكلتها الحقوق،
وأنفذتها المؤن، لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم، وعليه حسن النظر لهم؛ وذلك بثلاثة
شروط: الأول: ألا يستأثر عليهم بشيء. الثاني: أن يبدأ بأهل الحاجة فيعينهم الثالث أن
يسوي في العطاء بينهم على قدر منازلهم، فإذا فنيت بعد هذا وبقيت صفرا فأطلعت الحوادث
أمرا بذلوا أنفسهم قبل أموالهم، فإن لم يغن ذلك فأموالهم تؤخذ منهم على تقدير، وتصريف
بتدبير؛ فهذا ذو القرنين لما عرضوا عليه المال في أن يكف عنهم ما يحذرونه من عادية
يأجوج ومأجوج قال: لست احتاج إليه وإنما احتاج إليكم {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي
اخدموا بأنفسكم معي، فان الأموال عندي والرجال عندكم، ورأى أن الأموال لا تغني عنهم،
فإنه إن أخذها أجرة نقص ذلك مما يحتاج إليه، فيعود بالأجر عليهم، فكان التطوع بخدمة
الأبدان أولى. وضابط الأمر أنه لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض، فيؤخذ ذلك، المال جهرا
لا سرا، وينفق بالعدل لا بالاستئثار، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر. والله تعالى
الموفق للصواب.
قوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ}
أي أعطوني زبر الحديد وناولونيها أمرهم بنقل الآلة، وهذا كله إنما هو استدعاء العطية
التي بغير معنى الهبة، وإنما هو استدعاء للمناولة,لأنه قد ارتبط من قوله: إنه لا يأخذ
منهم الخرج فلم يبق إلا استدعاء المناولة، وأعمال الأبدان و {زُبَرَ الْحَدِيدِ} قطع
الحديد. وأصل الكلمة الاجتماع، ومنه زُبرة الأسد لما اجتمع من الشعر على كاهله. وزبرت
الكتاب أي كتبته وجمعت حروفه. وقرأ أبو بكر والمفضل {ردما ايتوني} من الإتيان الذي
هو المجيء؛ أي جيؤوني بزبر الحديد، فلما سقط الخافض انتصب الفعل على نحو قول الشاعر:
أمرتك الخير...حذف الجار فنصب الفعل وقرأ
الجمهور {زُبَرَ} بفتح الباء وقرأ الحسن بضمها؛ وكل ذلك جمع زبرة وهي القطعة العظيمة
منه.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا سَاوَى} يعني
البناء فحذف لقوة الكلام عليه. {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} قال أبو عبيدة: هما جانبا الجبل،
وسميا بذلك لتصادفهما أي لتلاقيهما. وقاله الزهري وابن عباس؛ "كأنه يعرض عن الآخر"
من الصدوف؛ قال الشاعر:
كلا الصدفين ينفذه سناها
توقد مثل مصباح الظلام
ويقال للبناء المرتفع صدف تشبيه بجانب الجبل.
وفي الحديث: كان إذا مر بصدف مائل أسرع المشي. قال أبو عبيد: الصدف والهدف كل بناء
عظيم مرتفع. ابن عطية: الصدفان الجبلان المتناوحان ولا يقال للواحد صدف، وإنما يقال
صدفان للاثنين؛ لأن أحدهما يصادف الآخر. وقرأ نافع وحمزة والكسائي {الصدفين} بفتح الصاد
وشدها وفتح الدال، وهي قراءة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعمر بن عبد العزيز،
وهي اختيار أبي عبيدة لأنها أشهر اللغات. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو {الصدفين}
بضم الصاد والدال وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {الصدفين} بضم الصاد وسكون الدال، نحو
الجرف والجرف فهو تخفيف. وقرأ ابن الماجشون بفتح الصاد وضم الدال. وقرأ قتادة {بين
الصدفين} بفتح الصاد وسكون الدال، وكل ذلك بمعنى واحد وهما الجبلان المتناوحان.
قوله تعالى: {قَالَ انْفُخُوا} إلى آخر
الآية أي على زبر الحديد بالأكيار، وذلك أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة،
ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى تحمى، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار،
فذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو بالرصاص
أو بالحديد بحسب الخلاف في القطر، فيفرغه على ذلك الطاقة المنضدة، فإذا التأم واشتد
ولصق البعض بالبعض استأنف وضع طاقة أخرى، إلى أن استوى العمل فصار جبلا صلدا قال قتادة:
هو كالبرد المحبر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
جاءه رجل فقال: يا رسول الله إني رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال: "كيف رأيته"
قال: رأيته كالبرد المحبر، طريقة صفراء، وطريقة حمراء، وطريقة سوداء، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم "قد رأيته" . ومعنى {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} أي
كالنار.
قوله تعالى: {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ
قِطْراً} أي أعطوني قطرا أفرغ عليه، على التقديم والتأخير. ومن قرأ {ائتوني} فالمعنى
عنده تعالوا أفرغ عليه نحاسا. والقطر عند أكثر المفسرين النحاس المذاب، وأصله من القطر؛
لأنه إذا أذيب قطر كما يقطر الماء وقالت فرقة: القطر الحديد المذاب. وقالت فرقة منهم
ابن الأنباري: الرصاص المذاب. وهو مشتق من قطر يقطر قطرا. ومنه {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ
الْقِطْرِ} .
قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ}
أي ما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوه ويصعدوا فيه؛ لأنه أملس مستو مع الجبل والجبل عال
لا يرام. وارتفاع السد مائتا ذراع وخمسون ذراعا. وروي: في طوله ما بين طرفي الجبلين
مائة فرسخ، وفي عرضه خمسون فرسخ؛ قاله وهب بن منبه.
قوله تعالى: {مَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً}
لبعد عرضه وقوته. وروي في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وعقد وهب بن منبه بيده تسعين وفي
رواية - وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها..." وذكر الحديث. وذكر يحيى بن سلام
عن سعد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "إن يأجوج ومأجوج يخرقون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون
شعاع الشمس قال الذي عليهم أرجعوا فستخرقونه غدا فيعيده الله كأشد ما كان حتى إذا بلغت
مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي
عليهم أرجعوا فستحفرونه إن شاء الله فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون
على الناس..." الحديث وقد تقدم. قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا} بتخفيف الطاء
على قراءة الجمهور. وقيل: هي لغة بمعنى استطاعوا. وقيل: بل استطاعوا بعينه كثر في كلام
العرب حتى حذف بعضهم منه التاء فقالوا: اسطاعوا. وحذف بعضهم منه الطاء فقال استاع يستيع
بمعنى استطاع يستطيع، وهي لغة مشهورة. وقرأ حمزة وحده {فما اسطّاعوا} بتشديد الطاء
كأنه أراد استطاعوا، ثم أدغم التاء في الطاء فشددها، وهي قراءة ضعيفة الوجه؛ قال أبو
علي: هي غير جائزة. وقرأ الأعمش {فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا} بالتاء
في الموضعين.
قوله تعالى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ
رَبِّي} القائل ذو القرنين، وأشار بهذا إلى الردم، والقوة عليه، والانتفاع به في دفع
ضرر يأجوج ومأجوج. وقرأ ابن أبي عبلة {هذه رحمة من ربي} .
قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي}
أي يوم القيامة. وقيل: وقت خروجهم. {جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً}
أي مستويا بالأرض؛ ومنه قوله تعالى: {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ} قال ابن عرفة: أي جعلت
مستوية لا أكمة فيها، ومنه قوله تعالى: {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} قال اليزيدي: أي مستويا؛
يقال: ناقة دكاء إذا ذهب سنامها. وقال القتبي: أي مدكوكا ملصقا بالأرض. وقال الكلبي:
قطعا متكسرا؛ قال:
هل غير غاد دك غارا فانهدم
وقال الأزهري: يقال دككته أي دققته. ومن
قرأ {دكاء} أراد جعل الجبل أرضا دكاء، وهي الرابية التي لا تبلغ أن تكون جبلا وجمعها
دكاوات. قرأ حمزة وعاصم والكسائي {دكاء} بالمد على التشبيه بالناقة الدكاء، وهي التي
لا سنام لها، وفي الكلام حذف تقديره: جعله مثل دكاء؛ ولا بد من تقدير هذا الحذف. لأن
السد مذكر فلا يوصف بدكاء. ومن قرأ {دكا} فهو مصدر دك يدك إذا هدم ورض؛ ويحتمل أن يكون
"جعل" بمعنى خلق. وينصب "دكا" على الحال. وكذلك النصب أيضا في
قراءة من مد يحتمل الوجهين.
[99] {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ
يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً}
قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ
يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} الضمير في "تركنا" لله تعالى؛ أي تركنا الجن والإنس
يوم القيامة يموج بعضهم في بعض. وقيل: تركنا يأجوج ومأجوج "يومئذ" أي وقت
كمال السد يموج بعضهم في بعض. واستعارة الموج لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض،
كالمولهين من هو وخوف؛ فشبههم بموج البحر الذي يضطرب بعضه في بعض. وقيل: تركنا يأجوج
ومأجوج يوم انفتاح السد يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم.
قلت: فهذه ثلاثة أقوال أظهرها أوسطها، وأبعدها
آخرها، وحسن الأول؛ لأنه تقدم ذكر القيامة في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
رَبِّي } . والله أعلم.
قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} تقدم
في "الأنعام" {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} يعني الجن والإنس في عرصات القيامة.
{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ} أي أبرزناها لهم. {يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً} {الَّذِينَ
كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ} في موضع خفض نعت "للكافرين". {فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي}
أي هم بمنزلة من عينه مغطاة فلا ينظر إلى دلائل الله تعالى. {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ
سَمْعاً} أي لا يطيقون أن يسمعوا كلام الله تعالى، فهم بمنزلة من صم.
الطبري
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
}
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم: ويسألك يا محمد هؤلاء المشركون عن ذي القرنين ما كان شأنه، وما كانت قصته، فقل
لهم: سأتلو عليكم من خبره ذكرا يقول: سأقصّ عليكم منه خبرا. وقد قيل: إن الذين سألوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر ذي القرنين، كانوا قوما من أهل الكتاب.
فأما الخبر بأن الذين سألوه عن ذلك كانوا
مشركي قومه فقد ذكرناه قبل.
وأما الخبر بأن الذين سألوه، كانوا قوما
من أهل الكتاب ، فحدثنا به أبو كريب. قال: ثنا زيد بن حباب عن ابن لهيعة ، قال: ثني
عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن شيخين من تجيب، قال : أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى
عقبة بن عامر نتحدّث، قالا فأتياه فقالا جئنا لتحدثنا، فقال: "كنت يوما أخدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت من عنده، فلقيني قوم من أهل الكتاب، فقالوا: نريد أن
نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه، فدخلت عليه، فأخبرته، فقال:
ما لي وما لهم، ما لي علم إلا ما علمني الله"، ثم قال: اسكب لي ماء ، فتوضأ ثم
صلى، قال: فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه، ثم قال: "أدخلهم عليّ، ومن رأيت من
أصحابي فدخلوا فقاموا بين يديه، فقال: إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم
مكتوبا، وإن شئتم أخبرتكم، قالوا: بلى أخبرنا، قال: جئتم تسألوني عن ذي القرنين، وما
تجدونه في كتابكم: كان شابا من الروم، فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية ، فلما فرغ جاءه
ملك فعلا به في السماء، فقال له ما ترى؟ فقال: أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به، فقال:
ما ترى؟ فقال: أرى مدينتي، ثم علا به فقال: ما ترى؟ قال: أرى الأرض، قال: فهذا اليم
محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل، وتثبت العالم، فأتى به السدّ، وهو جبلان
لينان يَزْلَق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج، ثم مضى به إلى أمة أخرى،
وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء
الذين وجوههم وجوه الكلاب، ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم".
واختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله
قيل لذي القرنين: ذو القرنين، فقال بعضهم:
قيل له ذلك من أجل أنه ضُرِب على قَرنْه
فهلك، ثم أُحْيِي فضُرب على القرن الآخر فهلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة،
عن عبيد المُكْتِب، عن أبي الطُّفِيل، قال: سأل ابن الكوّاء عليا عن ذي القرنين، فقال:
هو عبد أحبّ الله فأحبه، وناصح الله فنصحه، فأمرهم بتقوى الله فضربوه على قَرْنه فقتلوه،
ثم بعثه الله ، فضربوه على قرنه فمات.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى، عن
سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل، قال: سئل عليّ رضوان الله عليه عن ذي القرنين،
فقال: كان عبدا ناصح الله فناصحه، فدعا قومه إلى الله، فضربوه على قرنه فمات، فأحياه
الله، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فسمي ذا القرنين.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن
جعفر، قال: ثنا شعبة، عن القاسم بن أبى بزة، عن أبي الطفيل، قال: سمعت عليا وسألوه
عن ذي القرنين أنبيا كان؟ قال: كان عبدا صالحا، أحبّ الله ، فأحبه الله، وناصح الله
فنصحه، فبعثه الله إلى قومه، فضربوه ضربتين في رأسه، فسمي ذا القرنين ، وفيكم اليوم
مثله.
وقال آخرون في ذلك بما حدثني به محمد بن
سهل البخاري، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل، قال: قال
وهب بن منبه: كان ذو القرنين ملكا، فقيل له : فلم سُمّي ذا القرنين؟ قال: اختلف فيه
أهل الكتاب. فقال بعضهم: ملك الروم وفارس. وقال بعضهم: كان في رأسه شبه القرنين.
وقال آخرون: إنما سمي ذلك لأن صفحتي رأسه
كانتا من نحاس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة. قال: ثني
ابن أبي إسحاق. قال: ثني من لا أتهم عن وهب بن منبه اليماني، قال: إنما سمي ذا القرنين
أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس.
وقوله:( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ
وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) يقول: إنا وطأنا له في الأرض،( وَآتَيْنَاهُ
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) يقول وآتيناه من كل شيء،
يعني ما يتسبب إليه وهو العلم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال ثنا عبد الله، قال: ثني
معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) يقول:
علما.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة قوله( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) أي علما.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال:
قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) قال: من كلّ
شيء علما..
- حدثنا القاسم، قال ثنا الحسين ، قال:
ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) قال: علم كلّ
شيء.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال:
ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا
) علما.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول:
ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا
) يقول: علما.
وقوله:( فَأَتْبَعَ سَبَبًا ) اختلفت القراء
في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة ، فاتبع بوصل الألف، وتشديد التاء،
بمعنى: سلك وسار، من قول القائل: اتَّبعت أثر فلان: إذا قفوته ؛ وسرت وراءه. وقرأ ذلك
عامة قرّاء الكوفة( فَأَتْبَعَ) بهمز الألف، وتخفيف التاء، بمعنى لحق.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب: قراءة
من قرأه( فَاتَّبَعَ) بوصل الألف، وتشديد التاء، لأن ذلك خبر من الله تعالى ذكره عن
مسير ذي القرنين في الأرض التي مكن له فيها، لا عن لحاقه السبب، وبذلك جاء تأويل أهل
التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال:
ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس( فَاتَّبَعَ سَبَبا ) يعني بالسبب ، المنزل.
حدثنا محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى ، وحدثني
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ
وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا
(86)
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء،
جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:(سَبَبا) قال: منزلا وطريقا ما بين المشرق
والمغرب.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني
حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد، نحوه.
حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا عبيد
الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد( فاتَّبَعَ سَبَبا ) قال:
طريقا في الأرض.
حدثنا بشر، قال: يزيد، قال: ثنا سعيد، عن
قتادة( فاتَّبَعَ سَبَبا ): اتبع منازل الأرض ومعالمها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال:
قال ابن زيد، في قوله( فاتَّبَعَ سَبَبا ) قال: هذه الآن سبب الطرق (1) كما قال فرعون(
يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ
) قال: طرق السماوات.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق،
قال : أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:( فاتَّبَعَ سَبَبا ) قال: منازل الأرض.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول:
أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله( فاتَّبَعَ سَبَبا ) قال: المنازل.
القول في تأويل قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا
بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا
قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ
فِيهِمْ حُسْنًا (86) }
* يقول تعالى ذكره:( حَتَّى إِذَا بَلَغَ
) ذو القرنين( مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) ، فاختلفت
القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قراء المدينة والبصرة( فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) بمعنى:
أنها تغرب في عين ماء ذات حمأة، وقرأته جماعة من قراء المدينة، وعامَّة قرّاء الكوفة(فِي
عَيْنٍ حامِيَةٍ( يعني أنها
تغرب في عين ماء حارّة.
واختلف أهل التأويل في تأويلهم ذلك على
نحو اختلاف القرّاء في قراءته.
ذكر من قال( تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ
): حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبى عديّ، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس(
وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) قال: ذات حمأة.
حدثنا الحسين بن الجنيد، قال: ثنا سعيد
بن سلمة، قال: ثنا إسماعيل بن علية، عن عثمان بن حاضر، قال: سمعت عبد الله بن عباس
يقول: قرأ معاوية هذه الآية، فقال :( عَيْنٌ حامِيَةٌ ) فقال ابن عباس: إنها عين حمئة،
قال: فجعلا كعبا بينهما، قال: فأرسلا إلى كعب الأحبار، فسألاه، فقال كعب: أما الشمس
فإنها تغيب في ثأط، فكانت على ما قال ابن عباس، والثأط: الطين.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال:
ثني نافع بن أبي نعيم، قال: سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول: كان ابن عباس يقول( فِي عَيْنٍ
حَمِئَةٍ) ثم فسرها. ذات حمأة، قال نافع: وسئل عنها كعب، فقال: أنتم أعلم بالقرآن مني،
ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال:
ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ
) قال: هي الحمأة.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد( فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) قال : ثأط.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني
حجاج ، عن ابن جريج، عن مجاهد في قول الله عزّ ذكره( تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ
) قال: ثأطة.
قال: وأخبرني عمرو بن دينار، عن عطاء بن
أبي رباح، عن ابن عباس، قال: قرأت( فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) وقرأ عمرو بن العاص(فِي عَيْنٍ
حامِيَةٍ) فأرسلنا إلى كعب. فقال: إنها تغرب في حمأة طينة سوداء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة( تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) والحمئة: الحمأة السوداء.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا مروان
بن معاوية، عن ورقاء، قال: سمعت سعيد بن جبير، قال: كان ابن عباس يقرأ هذا الحرف( فِي
عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) ويقول: حمأة سوداء تغرب فيها الشمس.
وقال آخرون: بل هي تغيب في عين حارّة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني
معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس(وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حامِيَةٍ ) يقول: في عين
حارّة.
حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي
رجاء، قال: سمعت الحسن يقول(فِي عَيْنٍ حامِيَةٍ ) قال: حارّة.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر ، عن الحسن، في قوله( فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ ) قال: حارّة، وكذلك قرأها
الحسن.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال:
إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، ولكل واحدة منهما وجه صحيح ومعنى مفهوم،
وكلا وجهيه غير مفسد أحدهما صاحبه، وذلك أنه جائز أن تكون الشمس تغرب في عين حارّة
ذات حمأة وطين، فيكون القارئ في عين حامية بصفتها التي هي لها، وهي الحرارة، ويكون
القارئ في عين حمئة واصفها بصفتها التي هي بها وهي أنها ذات حمأة وطين. وقد رُوي بكلا
صيغتيها اللتين إنهما من صفتيها أخبار.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال: ثنا يزيد بن
هارون، قال: أخبرنا العوّام، قال: ثني مولى لعبد الله بن عمرو، عن عبد الله، قال:
" نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت، فقال: فِي نارِ اللهِ
الحامِيَةِ، فِي نَارِ اللهِ الحَامِيَةِ، لَوْلا ما يَزَعُها مِنْ أمْرِ اللهِ لأحْرَقَتْ
ما عَلى الأرْضِ".
حدثني الفضل بن داود الواسطي، قال: ثنا
أبو داود، قال: ثنا محمد بن دينار، عن سعد بن أوس، عن مصدع، عن ابن عباس، عن أبيّ بن
كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه:(حَمِئةٍ).
وقوله:( وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ) ذكر
أن أولئك القوم يقال لهم: ناسك.
وقوله:( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ
إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ ) يقول: إما أن تقتلهم إن هم لم يدخلوا
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ
ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا
(88)
في الإقرار بتوحيد الله، ويذعنوا لك بما
تدعوهم إليه من طاعة ربهم( وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ) يقول: وإما أن
تأسرهم فتعلمهم الهدى وتبصرهم الرشاد.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَمَّا
مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا
نُكْرًا (87) }
يقول جلّ ثناؤه( قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ
فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ) يقول: أما من كفر فسوف نقتله.
كما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد
الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:( أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ
) قال: هو القتل.
وقوله( ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ
عَذَابًا نُكْرًا ) يقول: ثم يرجع إلى الله تعالى بعد قتله، فيعذبه عذابا عظيما، وهو
النكر، وذلك عذاب جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمَّا
مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا
يُسْرًا (88) }
يقول: وأما من صدق الله منهم ووحَّده، وعمل
بطاعته ، فله عند الله الحسنى، وهي الجنة، جزاء يعني ثوابا على إيمانه، وطاعته ربه.
وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته
عامَّة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة والكوفة(فَلَهُ جَزَاءُ الحُسْنَى) برفع
الجزاء وإضافته إلى الحسنى.
وإذا قرئ ذلك كذلك، فله وجهان من التأويل:
أحدهما: أن يجعل الحسنى مرادا بها إيمانه
وأعماله الصالحة، فيكون معنى الكلام إذا أريد بها ذلك: وأما من آمن وعمل صالحا فله
جزاؤها، يعني جزاء هذه الأفعال الحسنة.
والوجه الثاني: أن يكون معنيا بالحسنى:
الجنة، وأضيف الجزاء إليها، كما قيل( وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ) والدار: هي الآخرة،
وكما قال:( وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) والدين: هو القيم.
وقرأ آخرون:( فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى
) بمعنى: فله الجنة جزاء فيكون الجزاء
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا
بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ
دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
منصوبا على المصدر. بمعنى: يجازيهم جزاء
الجنة.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة
من قرأه:( فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ) بنصب الجزاء وتنوينه على المعنى الذي وصفت،
من أن لهم الجنة جزاء. فيكون الجزاء نصبا على التفسير.
وقوله:( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا
يُسْرًا ) يقول: وسنعلمه نحن في الدنيا ما تيسر لنا تعليمه ما يقرّبه إلى الله ويلين
له من القول. وكان مجاهد يقول نحوا مما قلنا في ذلك.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى "ح" ، وحدثتي الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله( مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ) قال معروفا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني
حجاج ، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ
لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا
لَدَيْهِ خُبْرًا (91) }
يقول تعالى ذكره: ثم سار وسلك ذو القرنين
طرقا ومنازل.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال:
ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ) يعني
منزلا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ) منازل الأرض ومعالمها( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ
الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا
)
يقول تعالى ذكره: ووجد ذو القرنين الشمس
تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا، وذلك أن أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، ولا تحتمل
بناء ، فيسكنوا البيوت، وإنما يغورون في المياه، أو يسربون في الأسراب
كما حدثني إبراهيم ين المستمر، قال: ثنا
سليمان بن داود وأبو داود،
قال: ثنا سهل بن أبي الصلت السراج، عن الحسن(
تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال: كانت أرضا
لا تحتمل البناء، وكانوا إذا طلعت عليهم الشمس تغور في الماء، فإذا غربت خرجوا يتراعون
كما ترعى البهائم، قال: ثم قال الحسن: هذا حديث سمرة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ
لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) ذكر لنا أنهم كانوا في مكان لا يستقرّ
عليه البناء، وإنما يكونون في أسراب لهم، حتى إذا زالت عنهم الشمس خرجوا إلى معايشهم
وحروثهم، قال:( كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني
حجاج، عن ابن جريج في قوله( وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ
مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال: لم يبنوا فيها بناء قط، ولم يبن عليهم فيها بناء قط،
وكانوا إذا طلعت عليهم الشمس دخلوا أسرابا لهم حتى تزول الشمس، أو دخلوا البحر، وذلك
أن أرضهم ليس فيها جبل، وجاءهم جيش مرّة، فقال لهم أهلها: لا تطلعن عليكم الشمس وأنتم
بها، فقالوا: لا نبرح حتى تطلع الشمس، ما هذه العظام؟ قالوا: هذه جيف جيش طلعت عليهم
الشمس ها هنا فماتوا، قال: فذهبوا هاربين في الأرض.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق،
قال : أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله:( تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ
دُونِهَا سِتْرًا ) قال: بلغنا أنهم كانوا في مكان لا يثبت عليهم بناء، فكانوا يدخلون
في أسراب لهم إذا طلعت الشمس، حتى تزول عنهم، ثم يخرجون إلى معايشهم.
وقال آخرون: هم الزنج.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق،
قال : أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله( تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ
مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال: يقال: هم الزنج.
وأما قوله:(كَذَلكَ) فإن معناه: ثم أتبع
سببا كذلك، حتى إذا بلغ مطلع الشمس ؛ وكذلك: من صلة أتبع، وإنما معنى الكلام: ثم أتبع
سببا، حتى بلغ
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا
بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ
قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ
فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ
سَدًّا (94)
مطلع الشمس ، كما أتبع سببا حتى بلغ مغربها.
وقوله( وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ
خُبْرًا ) يقول: وقد أحطنا بما عند مطلع الشمس علما لا يخفى علينا ما هنالك من الخلق
وأحوالهم وأسبابهم، ولا من غيرهم شيء.
وبالذي قلنا في معنى الخبر، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:(خُبْرًا) قال: علما.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال:
قال ابن زيد، في قوله( كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) قال: علما.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا
لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) }
يقول تعالى ذكره: ثم سار طرقا ومنازل، وسلك
سبلا( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة
قرّاء المدينة وبعض الكوفيين( حتَّى إذَا بلَغ بينَ السُّدَّيْنِ ) بضمّ السين وكذلك
جميع ما في القرآن من ذلك بضم السين. وكان بعض قرّاء المكيين يقرؤنه بفتح ذلك كله.
وكان أبو عمرو بن العلاء يفتح السين في هذه السورة، ويضمّ السين في يس، ويقول: السَّدُّ
بالفتح: هو الحاجز بينك وبين الشيء ؛ والسُّدُّ بالضم: ما كان من غشاوة في العين. وأما
الكوفيون فإن قراءة عامتهم في جميع القرآن بفتح السين غير قوله:
( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ
) فإنهم ضموا السين في ذلك خاصة.
ورُوي عن عكرمة في ذلك، ما حدثنا به أحمد
بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن أيوب، عن عكرمة قال: ما كان
من صنعة بني آدم فهو السَّدُّ ، يعني بالفتح، وما كان من صنع الله فهو السدّ.
وكان الكسائي يقول : هما لغتان بمعنى واحد.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال:
إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، ولغتان متفقتا المعنى غير مختلفة، فبأيتهما
قرأ القارئ فمصيب، ولا معنى للفرق الذي ذكر عن أبي عمرو بن العلاء، وعكرمة بين السُّد
والسَّد، لأنا لم نجد لذلك شاهدا يبين عن فرق ما بين ذلك على ما حكي عنهما. وما يبين
ذلك أن جميع أهل التأويل الذي رُوي لنا عنهم في ذلك قول - لم يحك لنا عن أحد منهم تفصيل
بين فتح ذلك وضمه، ولو كانا مختلفي المعنى لنقل الفصل مع التأويل إن شاء الله. ولكن
معنى ذلك كان عندهم غير مفترق ، فيفسر الحرف بغير تفصيل منهم بين ذلك. وأما ما ذُكر
عن عكرِمة في ذلك، فإن الذي نقل ذلك عن أيوب وهارون، وفي نقله نظر، ولا نعرف ذلك عن
أيوب من رواية ثقات أصحابه. والسَّد والسُّد جميعا: الحاجز بين الشيئين، وهما ها هنا
فيما ذُكر جبلان سدّ ما بينهما، فردم ذو القرنين حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن وراءهم،
ليقطع مادّ غوائلهم وعبثهم عنهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني
حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس( حتى إذَا بَلَغَ بينَ السُّدَّيْنِ)
قال: الجبلين الردم الذي بين يأجوج ومأجوج، أمتين من وراء ردم ذي القرنين: قال: الجبلان:
أرمينية وأذربيجان.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة( حتى إذَا بَلَغَ بينَ السُّدَّيْنِ) وهما جبلان.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول:
ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( بينَ السُّدَّيْنِ ) يعني بين جبلين.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق،
قال : أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله(بينَ السُّدَّيْن) قال: هما جبلان.
وقوله( وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا
لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا ) يقول عزّ ذكره: وجد من دون السدّين قوما لا يكادون
يفقهون قول قائل سوى كلامهم.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله(يَفْقَهُون)
فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة( يَفَقَهُونَ قَوْلا) بفتح
القاف والياء، من فقَه الرجل يفقَه فقها: وقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل الكوفة(يُفْقِهُون
قَوْلا) بضمّ الياء وكسر القاف: من أفقهت فلانا كذا أفقهه إفقاها: إذا فهمته ذلك.
والصواب عندي من القول في ذلك، إنهما قراءتان
مستفيضتان في قراءة الأمصار، غير دافعة إحداهما الأخرى ، وذلك أن القوم الذين أخبر
الله عنهم هذا الخبر جائز أن يكونوا لا يكادون يفقهون قولا لغيرهم عنهم، فيكون صوابا
القراءة بذلك. وجائز أن يكونوا مع كونهم كذلك كانوا لا يكادون أن يفقهوا غيرهم لعلل:
إما بألسنتهم، وإما بمنطقهم، فتكون القراءة بذلك أيضا صوابا.
وقوله( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ
فِي الأرْضِ ) اختلفت القرّاء في قراءة قوله( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ) فقرأت
القرّاء من أهل الحجاز والعراق وغيرهم( إنَّ ياجُوجَ وماجُوجَ ) بغير همز على فاعول
من يججت ومججت، وجعلوا الألفين فيهما زائدتين ، غير عاصم بن أبي النجود والأعرج، فإنه
ذكر أنهما قرآ ذلك بالهمز فيهما جميعا، وجعلا الهمز فيهما من أصل الكلام، وكأنهما جعلا
يأجوج: يفعول من أججت، ومأجوج: مفعول.
والقراءة التي هي القراءة الصحيحة عندنا،
أن(ياجُوحَ وماجُوجَ( بألف بغير همز لإجماع الحجة من القرّاء عليه، وأنه الكلام المعروف
على ألسن العرب ؛ ومنه قول رؤبة بن العجاج.
لو أنَّ ياجُوجَ وماجُوجَ مَعا... وعادَ
عادُوا واسْتَجاشُوا تُبَّعا (1)
(1) البيت لرؤبة بن العجاج ( ديوانه طبعة ليبسج
1903 ص 92 ) قال : " يأجوج ومأجوج ، لا ينصرفان . وبعضهم يهمز ألفيهما ، وبعضهم
لا يهمزها ؛ قال رؤبة : " لو أن يأجوج ومأجوج معا " فلم يصرفهما . ( وفي
اللسان : أجج ) . ويأجوج ومأجوج : قبيلتان من خلق الله ، جاءت القراءة فيهما بهمز وغير
همز . قال : وجاء في الحديث : " إن الخلق عشرة أجزاء ، تسعة منها يأجوج ومأجوج
. وهما اسمان أعجميان ، واشتقاق مثلهما من كلام العرب ، يخرج من أجت النار ، ومن الماء
الأجاج ، وهو الشديد الملوحة ، المحرق من ملوحته . قال : ويكون التقدير في يأجوج :
" يفعول " . وكذلك مأجوج . قال : وهذا لو كان الاسمان عربيان ، لكان هذا
اشتقاقهما ؛ فأما الأعجمية فلا تشتق من العربية . ومن لا يهمز وجعل الألفين زائدتين
، يقول : ياجوج : من يججت ، وماجوج : من مججت وهما غير مصروفين ؛ قال رؤبة : لو أن
ياجوج وماجوج معا ... وعاد عادوا واستجاشوا تبعا.
. أ هـ .
وقوله:( مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) اختلف
أهل التأويل في معنى الإفساد الذي وصف الله به هاتين الأمتين، فقال بعضهم: كانوا يأكلون
الناس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، قال: ثنا
إبراهيم بن أيوب الخوزاني، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: سمعت سعيد بن عبد العزيز
يقول في قوله( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) قال : كانوا
يأكلون الناس.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن يأجوج ومأجوح
سيفسدون في الأرض، لا أنهم كانوا يومئذ يفسدون.
* ذكر من قال ذلك، وذكر صفة اتباع ذي القرنين
الأسباب التي ذكرها الله في هذه الآية، وذكر سبب بنائه للردم: حدثنا ابن حميد، قال:
ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن اسحاق، قال: ثني بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب،
ممن قد أسلم، مما توارثوا من علم ذي القرنين، أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر اسمه
مرزبا بن مردبة اليوناني، من ولد يونن بن يافث بن نوح.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني
محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي، وكان خالد رجلا قد أدرك
الناس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذى القرنين فقال مَلِكٌ مَسَحَ
الأرْضَ مِنْ تَحْتِها بالأسْبابِ" قال خالد: وسمع عمر بن الخطاب رجلا يقول:
يا ذا القرنين، فقال: اللهمّ غفرا، أما
رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء، حتى تسموا بأسماء الملائكة؟ فإن كان رسول الله قال
ذلك، فالحق ما قال، والباطل ما خالفه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني
محمد بن إسحاق، قال: فحدثني من لا أتهم عن وهب بن منبه اليماني، وكان له علم بالأحاديث
الأول ، أنه كان يقول: ذو القرنين رجل من الروم، ابن عجوز من عجائزهم، ليس لها ولد
غيره، وكان اسمه الإسكندر. وإنما سمي ذا القرنين أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس ؛ فلما
بلغ وكان عبدا صالحا، قال الله عزّ وجل له: يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض،
وهي أمم مختلفة ألسنتهم، وهم جميع أهل الأرض ، ومنهم أمتان بينهما طول الأرض كله ؛
ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض كله، وأم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج.
فأما الأمتان اللتان بينهما طول الأرض: فأمة عند مغرب الشمس، يقال لها: ناسك. وأما
الأخرى: فعند مطلعها يقال لها: منسك. وأما اللتان بينهما عرض الأرض، فأمة في قطر الأرض
الأيمن، يقال لها: هاويل. وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر ، فأمة يقال لها: تاويل
؛ فلما قال الله له ذلك، قال له ذو القرنين: إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم لا يَقدر
قدره إلا أنت، فأخبرني عن هذه الأمم التي بعثني إليها، بأيّ قوة أكابدهم، وبأيّ جمع
أكاثرهم، وبأيّ حيلة أكايدهم، وبأيّ صبر أقاسيهم، وبأيّ لسان أناطقهم، وكيف لي بأن
أفقه لغاتهم، وبأىّ سمْع أعي قولهم، وبأيّ بصر أنفذهم، وبأيّ حجة أخاصمهم، وبأيّ قلب
أعقل عنهم، وبأيّ حكمة أدبر أمرهم، وبأيّ قسط أعدل بينهم، وبأيّ حلم أصابرهم، وبأيّ
معرفة أفصل بينهم، وبأيّ علم أتقن أمورهم، وبأيّ يد أسطو عليهم، وبأيّ رجل أطؤهم، وبأيّ
طاقة أخصمهم، وبأيّ جند أقاتلهم، وبأيّ رفق أستألفهم، فإنه ليس عندي يا إلهي شيء مما
ذكرت يقوم لهم، ولا يقوى عليهم ولا يطيقهم. وأنت الربّ الرحيم. الذي لا يكلِّف نفسا
إلا وسعها، ولا يحملها إلا طاقتها، ولا يعنتها ولا يفدحها، بل أنت ترأفها (1) وترحمها.
قال الله عزّ
وجلّ: إني سأطوّقك ما حمَّلتك، أشرح لك
صدرك، فيسع كلّ شيء وأشرح لك فهمك فتفقه كلّ شيء، وأبسط لك لسانك، فتنطق بكلّ شيء،
وأفتح لك سمعك فتعي كلّ شيء، وأمدّ لك بصرك، فتنفذ كلّ شيء، وأدبر أمرك فتتقن كلّ شيء،
وأحصي لك فلا يفوتك شيء، وأحفظ عليك فلا يعزب عنك شيء، وأشدّ لك ظهرك، فلا يهدّك شيء،
وأشدّ لك ركنك فلا يغلبك شيء، وأشدّ لك قلبك فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلمة،
فأجعلهما جندا من جنودك، يهديك النور أمامك، وتحوطك الظلمة من ورائك، وأشدّ لك عقلك
فلا يهولك شيء، وأبسط لك من بين يديك، فتسطو فوق كلّ شيء، وأشدّ لك وطأتك، فتهدّ كل
شيء، وألبسك الهيبة فلا يرومك شيء.
ولما قيل له ذلك، انطلق يؤم الأمة التي
عند مغرب الشمس، فلما بلغهم، وجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله، وقوة وبأسا لا يطيقه
إلا الله، وألسنة مختلفة وأهواء متشتتة، وقلوبا متفرّقة ، فلما رأى ذلك كاثرهم بالظلمة،
فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها، فأحاطتهم من كلّ مكان، وحاشتهم حتى جمعتهم قي مكان واحد،
ثم أخذ عليهم بالنور، فدعاهم إلى الله وإلى عبادته، فمنهم من آمن له، ومنهم من صدّ،
فعمد إلى الذين تولوا عنه. فأدخل عليهم الظلمة .فدخلت في أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم،
ودخلت في بيوتهم ودورهم، وغشيتهم من فوقهم، ومن تحتهم ومن كلّ جانب منهم، فماجوا فيها
وتحيروا ، فلما أشفقوا أن يهلكوا فيها عجوا إليه بصوت واحد، فكشفها عنهم وأخذهم عنوة،
فدخلوا في دعوته، فجنَّد من أهل المغرب أمما عظيمة، فجعلهم جندا واحدا، ثم انطلق بهم
يقودهم، والظلمة تسوقهم من خلفهم وتحرسهم من حولهم، والنور أمامهم يقودهم ويدلهم، وهو
يسير في ناحية الأرض اليمنى، وهو يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها
هاويل. وسخر الله له يده وقلبه ورأيه وعقله ونظره وائتماره، فلا يخطئ إذا ائتمر، وإذا
عمل عملا أتقنه. فانطلق يقود تلك الأمم وهي تتبعه، فإذا انتهى إلى بحر أو مخاضة بنى
سفنا من ألواح صغار أمثال النعال، فنظمها في ساعة، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك
الأمم وتلك الجنود، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها، ثم دفع إلى كلّ إنسان لوحا فلا
يكرثه حمله،
فلم يزل كذلك دأبه حتى انتهى إلى هاويل،
فعمل فيها كعمله في ناسك. فلما فرغ منها مضى على وجهه في ناحية الأرض اليمنى حتى انتهى
إلى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فيها وجند منها جنودا، كفعله في الأمتين اللتين قبلها،
ثم كر مقبلا في ناحية الأرض اليسرى، وهو يريد تاويل وهي الأمة التي بحيال هاويل، وهما
متقابلتان بينهما عرض الأرض كله ؛ فلما بلغها عمل فيها، وجند منها كفعله فيما قبلها
، فلما فرغ منها عطف منها إلى الأمم التي وسط الأرض من الجن وسائر الناس، ويأجوج ومأجوج
، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك نحو المشرق، قالت له أمة من الإنس صالحة:
يا ذا القرنين، إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله، وكثير منهم مشابه للإنس (1)
، وهم أشباه البهائم، يأكلون العشب، ويفترسون الدوابّ والوحوش كما تفترسها السباع،
ويأكلون خشاش الأرض كلها من الحيات والعقارب، وكلّ ذي روح مما خلق الله في الأرض، وليس
لله خلق ينمو نماءهم في العام الواحد، ولا يزداد كزيادتهم، ولا يكثر ككثرتهم، فإن كانت
لهم مدّة على ما نرى من نمائهم وزيادتهم، فلا شكّ أنهم سيملئون الأرض، ويجلون أهلها
عنها ويظهرون عليها فيفسدون فيها، وليست تمرّ بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونحن نتوقعهم،
وننتظر أن يطلع علينا أوائلهم من بين هذين الجبلين( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى
أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ
فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) أعدوا إليّ الصخور
والحديد والنحاس حتى أرتاد بلادهم، وأعلم علمهم، وأقيس ما بين جبليهم.
ثم انطلق يؤمهم حتى دفع إليهم وتوسط بلادهم،
فوجدهم على مقدار واحد، ذكرهم وأنثاهم، مبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع
منا، لهم مخالب في موضع الأظفار من أيدينا، وأضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها.
وأحناك كأحناك الإبل ، قوّة تسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الجرّة من الإبل، أو كقضم
الفحل المسنّ، أو الفرس القويّ، وهم هلب، عليهم من الشعر في أجسادهم ما يواريهم، وما
يتقون به الحرّ والبرد
إذا أصابهم ، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان:
إحداهما وبرة ظهرها وبطنها، والأخرى زغبة ظهرها وبطنها، تَسعانه إذا لبسهما، يلتحف
إحداهما، ويفترش الأخرى، ويصيف في إحداهما، ويشتي في الأخرى، وليس منهم ذكر ولا أنثى
إلا وقد عرف أجله الذى يموت فيه، ومنقطع عمره، وذلك أنه لا يموت ميت من ذكورهم حتى
يخرج من صلبه ألف ولد، ولا تموت الأنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد، فإذا كان ذلك أيقن
بالموت، وهم يرزقون التنين أيام الربيع، ويستمطرونه إذا تحينوه كما نستمطر الغيث لحينه،
فيقذفون منه كلّ سنة بواحد، فيأكلونه عامهم كله إلى مثله من العام القابل، فيغنيهم
على كثرتهم ونمائهم، فإذا أمطروا وأخصبوا وعاشوا وسمنوا، ورؤي أثره عليهم، فدرّت عليهم
الإناث، وشَبِقت منهم الرجال الذكور، وإذا أخطأهم هَزَلوا وأجدبوا، وجفرت الذكور، وحالت
الإناث، وتبين أثر ذلك عليهم، وهم يتداعَون تداعي الحَمام، ويعوُون عُواء الكلاب، ويتسافدون
حيث التقَوا تسافد البهائم.
فلما عاين ذلك منهم ذو القرنين انصرف إلى
ما بين الصَّدَفين، فقاس ما بينهما وهو في منقطع أرض الترك مما يلي مشرق الشمس، فوجد
بُعد ما بينهما مئة فرسخ ؛ فلما أنشأ في عمله، حفر له أساسا حتى بلغ الماء، ثم جعل
عرضه خمسين فرسخا، وجعل حشوه الصخور، وطينه النحاس، يذاب ثم يُصبّ عليه، فصار كأنه
عِرْق من جبل تحت الأرض، ثم علاه وشَرّفه بزُبَر الحديد والنحاس المذاب، وجعل خلاله
عِرْقا من نحاس أصفر، فصار كأنه بُرد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد ، فلما
فرغ منه وأحكمه ، انطلق عامدا إلى جماعة الإنس والجن ، فبينا هو يسير، دفع إلى أمة
صالحة يهدون بالحقّ وبه يعدلون، فوجد أمة مقسطة مقتصدة، يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل،
ويتآسون ويتراحمون، حالهم واحدة، وكلمتهم واحدة، وأخلاقهم مشتبهة، وطريقتهم مستقيمة
، وقلوبهم متألفة، وسيرتهم حسنة، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليس على بيوتهم أبواب، وليس
عليهم أمراء، وليس بينهم قضاة، وليس بينهم أغنياء، ولا ملوك، ولا أشراف، ولا يتفاوتون،
ولا يتفاضلون، ولا يختلفون، ولا يتنازعون، ولا يستبُّون، ولا يقتتلون ، ولا يَقْحَطون،
ولا يحردون، ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس، وهم أطول الناس أعمارا،
وليس فيهم مسكين، ولا فقير، ولا فظّ، ولا
غليظ ، فلما رأى ذلك ذو القرنين من أمرهم، عجب منه! وقال: أخبروني، أيها القوم خبركم،
فإني قد أحصيت الأرض كلها برّها وبحرها، وشرقها وغربها، ونورها وظلمتها، فلم أجد مثلكم،
فأخبروني خبركم ؛ قالوا: نعم، فسلنا عما تريد، قال: أخبروني، ما بال قبور موتاكم على
أبواب بيوتكم؟ قالوا: عمدا فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت، ولا يخرج ذكره من قلوبنا ، قال:
فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب؟ قالوا: ليس فينا متهم، وليس منا إلا أمين مؤتمن ؛
قال: فما لكم ليس عليكم أمراء؟ قالوا: لا نتظالم ، قال : فما بالكم ليس فيكم حكام؟
قالوا: لا نختصم ، قال: فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا: لا نتكاثر ؛ قال: فما بالكم
ليس فيكم ملوك؟ قالوا: لا نتكابر ، قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا:
من قبل ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا ؛ قال: فما بالكم لا تستبون ولا تقتتلون؟ قالوا:
من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم، وسسنا أنفسنا بالأحلام ، قال: فما بالكم كلمتكم واحدة،
وطريقتكم مستقيمة مستوية؟ قالوا: من قبل أنا لا نتكاذب، ولا نتخادع، ولا يغتاب بعضنا
بعضا ؛ قال: فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم، واعتدلت سيرتكم؟ قالوا: صحّت صدورنا، فنزع
بذلك الغلّ والحسد من قلوبنا ؛ قال: فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟ قالوا: من
قبل أنا نقتسم بالسوية ؛ قال: فما بالكم ليس فيكم فظّ ولا غليظ؟ قالوا: من قبل الذّل
والتواضع ؛ قال: فما جعلكم أطول الناس أعمارا؟ قالوا: من قبل أنا نتعاطى الحقّ ونحكم
بالعدل ؛ قال : فما بالكم لا تُقْحَطون؟ قالوا: لا نغفل عن الاستغفار ، قال: فما بالكم
لا تَحْرَدون؟ قالوا: من قبل أنا وطأنا أنفسنا للبلاء منذ كنا ، وأحببناه وحرصنا عليه،
فعرينا منه ، قال: فما بالكم لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس؟ قالوا: لا نتوكل على
غير الله، ولا نعمل بالأنواء والنجوم ، قال: حدِّثوني أهكذا وجدتم آباءكم يفعلون؟ قالوا:
نعم وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، ويَعفون عمن ظلمهم، ويُحسنون
إلى من أساء إليهم، ويحلُمون عمن جهل عليهم، ويستغفرون لمن سبهم، ويصلون أرحامهم، ويؤدّون
آماناتهم، ويحفظون وقتهم لصلاتهم، ويُوَفُّون بعهودهم، ويصدُقون في مواعيدهم، ولا يرغبون
عن أكفائهم، ولا يستنكفون عن أقاربهم، فأصلح الله لهم بذلك أمرهم، وحفظهم ما كانوا
أحياء، وكان حقا على الله أن يحفطهم في تركتهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : إنَّ
يأجُوجَ ومأْجُوجَ يَحْفُرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ، حتى إذَا كادُوا يَرَونَ شُعاعَ
الشَّمْسِ قال الَّذِي عَلَيْهِمْ ارْجِعُوا فَتَحْفُرُونَهُ غَدًا، فَيُعِيدُهُ اللهُ
وَهُوَ كَهَيْئتِهِ يَوْمَ تَرَكُوهُ، حتى إذَا جاءَ الوَقْتُ قالَ: إنْ شاءَ اللهُ،
فَيَحْفُرُونَهُ ويخْرُجُونَ على النَّاسِ ، فَينْشِفُونَ الميَاهَ، وَيَتَحَصَّنُ
النَّاسُ فِي حُصُونِهِمْ، فَيرْمُونَ بِسِهامِهِمْ إلى السَّماءِ، فَيرجِعُ فيها كَهَيْئَةِ
الدِّماءِ، فَيَقُولُونَ: قَهَرْنا أَهْلَ الأرضِ، وَعَلَوْنا أهْلَ السَّماءِ، فَيَبْعَثُ
اللهُ عَلَيْهِمْ نَغْفا في أقْفائِهمْ فَتَقْتُلُهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إنَّ دَوَابَّ الأرْضِ لَتَسْمَنُ وتَشْكرُ
مِنْ لُحُومِهِمْ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد
بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ثم الظفري، عن محمود بن لبيد أخي بني عبد
الأشهل، وعن أبي سعيد الخدريّ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"يُفْتَحُ يَأْجُوجُ ومأْجُوجَ فَيَخْرُجُونَ على النَّاسِ كمَا قال الله عز وجل(
وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) فَيَغْشَوْنَ الأرْضَ، ويَنْحازُ المُسْلِمُونَ
عَنْهُمْ إلى مَدَائِنِهمْ وحُصونِهِمْ، وَيَضُمَّونَ إلَيْهِمْ مَوَاشِيهِمْ، فَيَشْرَبُونَ
مِياهَ الأرْضِ، حتى إنَّ بَعْضَهُم لَيَمُرُّ بالنَّهْرِ فَيَشْرَبُونَ ما فِيهِ،
حتى يَتْركُوه يَابِسًا، حتى إنَّ مَنْ بَعْدَهُم لَيَمُرُّ بذلكَ النَّهْرِ، فَيَقُولُ:
لَقَدْ كانَ هَا هُنا ماءٌ مَرَّةً، حتى لمْ يَبْقَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إلا انحازَ
إلى حِصْنٍ أوْ مَدِينَةٍ، قالَ قائِلُهُم: هَؤْلاء أهْلُ الأرْضِ قَدْ فَرَغْنا مِنْهُمْ،
بَقِيَ أهْلُ السَّماءِ، قالَ: ثُمَّ يَهُزُّ أحَدُهُمْ حَرْبَتَهُ، ثُمَّ يَرْمي بها
إلى السَّماءِ، فَتَرْجِعُ إلَيْهِ مُخَضبَةً دَما للبلاء والفِتْنَةِ ، فَبَيْنَا
هُمْ على ذلكَ، بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ دُودًا في أعناقِهِمْ كالنَّغَفِ، فَتَخْرُجُ
فِي أعْناقِهِمْ فيُصْبِحُون مَوْتَى، لا يُسْمَعُ لَهُمْ حِسٌّ، فَيَقُولُ المُسْلِمُونَ:
ألا رَجُلٌ يَشْرِي لنَا نَفْسَهُ، فَيَنْظُرُ ما فعل العدوّ، قال: فَيَتَجَرَّدُ رَجُلٌ
مِنْهُمْ لذلكَ مُحْتَسِبا لِنَفْسِهِ، قَدْ وَطَّنَها على أنَّهُ مَقْتُولٌ، فَيَنزلُ
فَيَجِدُهُمْ مَوْتَى، بَعْضُهُمْ عَلى
بَعْضٍ، فَيُنادِي: يا مَعْشَرَ المُسْلِمينَ، ألا أبشرُوا، فإنَّ اللهَ قَدْ كَفاكُمْ
عَدُوَّكُمْ، فيَخْرُجونَ مِنْ مَدَائنهم وَحُصُونِهِمْ، وَيُسَرّحُونَ مَوَاشِيَهُمْ،
فَمَا يَكُونُ لَهَا رَعْيٌ إلا لُحُومُهُمْ، فَتشْكرُ عَنْهُمْ أحْسَنَ ما شَكَرَتْ
عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّباتِ أصَابَتْ قَطّ".
حدثني بحر بن نصر، قال: أخبرنا ابن وهب،
قال: ثني معاوية، عن أبي الزاهرية وشريح بن عبيد: أن يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف: صنف
طولهم كطول الأرز، وصنف طوله وعرضه سواء، وصنف يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى فتغطي
سائر جسده.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال:
ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) قال: كان أبو سعيد الخدريّ: يقول:
إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يَمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ حتى يُولَدَ
لِصُلْبِهِ ألْفُ رَجُل" . قال: وكان عبد الله بن مسعود يعجب من كثرتهم ويقول:
لا يموت من يأجوج ومأجوج أحد حتى يولد له ألف رجل من صلبه.
فالخبر الذي ذكرناه عن وهب بن منبه في قصة
يأجوج ومأجوج، يدلّ على أن الذين قالوا لذي القرنين( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ
فِي الأرْضِ ) إنما أعلموه خوفَهم ما يحدُث منهم من الإفساد في الأرض، لا أنهم شَكَوا
منهم فسادا كان منهم فيهم أو في غيرهم. والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم
سيكون منهم الإفساد في الأرض، ولا دلالة فيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنين
السدّ الذي أحدثه بينهم وبين من دونهم من الناس في الناس غيرهم إفساد.
فإذا كان ذلك كذلك بالذي بيَّنا، فالصحيح
من تأويل قوله( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) إن يأجوج ومأجوج
سيفسدون في الأرض.
وقوله( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا )
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة:(
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ) كأنهم نَحَوا به نَحو المصدر من خَرْج للرأس ، وذلك
جعله ، وقرأته عامَّة قرّاء الكوفيين
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ
فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا" بالألف،
وكأنهم نحوا به نحو الاسم. وعنوا به أجرة على بنائك لنا سدّا بيننا وبين هؤلاء القوم.
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة
من قرأه( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا" بالألف، لأن القوم فيما ذُكر عنهم، إنما
عرضوا على ذي القرنين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به على بناء السدِّ، وقد بين ذلك
بقوله:( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) ولم يعرضوا
عليه جزية رؤوسهم. والخراج عند العرب: هو الغلة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا
الحسين، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج، عن عطاء الخراسانيّ، عن ابن عباس( فَهَلْ نَجْعَلُ
لَكَ خَرَاجًا ) قال: أجرا(عَلَى أن تجعل بيننا وبينهم سدا)
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق،
قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله( فَهَلْ نَجْعَلُ لَك خَرَاجا) قال: أجرا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا
أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، قوله( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا ) قال: أجرا.
وقوله:( عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ) يقول: قالوا له: هل نجعل لك خراجا حتى أن تجعل بيننا وبين يأجوج
ومأجوح حاجزا يحجز بيننا وبينهم، ويمنعهم من الخروج إلينا. وهو السدّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ مَا
مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
رَدْمًا (95) }
يقول تعالى ذكره: قال ذو القرنين: الذي
مكنني في عمل ما سألتموني من السدّ بينكم وبين هؤلاء القوم ربي، ووطأه لي، وقوّانى
عليه، خير من جُعلكم، والأجرة التي تعرضونها عليّ لبناء ذلك، وأكثر وأطيب، ولكن أعينوني
منكم بقوة، أعينوني بفَعَلة وصناع يُحسنون البناء والعمل.
آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا
سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي
أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا
لَهُ نَقْبًا (97)
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال:
ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي
بِقُوَّةٍ ) قال: برجال( أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) وقال ما مكني،
فأدغم إحدى النونين في الأخرى، وإنما هو ما مكنني فيه. وقوله:( أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) يقول: أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج ردما. والردم: حاجز الحائط
والسدّ، إلا أنه أمنع منه وأشدّ، يقال منه: قد ردم فلان موضع كذا يَردِمه رَدْما ورُدَاما
(1) ويقال أيضا: رَدَّم ثوبه يردمه، وهو ثوب مُرَدّم: إذا كان كثير الرقاع ، ومنه قول
عنترة:
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ...
أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهْمِ (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال:
ثني عمي، قال : ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
رَدْمًا ) قال: هو كأشد الحجاب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة، قال: " ذكر لنا أن رجلا قال: يا نبي الله قد رأيت سدّ يأجوج ومأجوج،
قال انْعَتْهُ لي قال: كأنه البرد المحبَّر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء، قالَ قَدْ
رأيتَهُ".
القول في تأويل قوله تعالى : { آتُونِي
زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى
بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى
إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا
أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) }
يقول عزّ ذكره: قال ذو القرنين للذين سألوه
أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سداّ( آتُونِي ) أي جيئوني بِزُبَرِ الحديد، وهي جمع
زُبْرة ، والزُّبْرة: القطعة من الحديد.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال:
ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( زُبَرَ الْحَدِيدِ ) يقول: قطع الحديد.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال:
ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ )
قال: قطع الحديد.
حدثني إسماعيل بن سيف، قال: ثنا عليّ بن
مسهر، عن إسماعيل، عن أبي صالح، قوله:( زُبَرَ الْحَدِيدِ ) قال: قطع الحديد.
حدثني محمد بن عمارة الأسديّ، قال: ثنا
عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى عن مجاهد، قوله( آتُونِي زُبَرَ
الْحَدِيدِ ) قال: قطع الحديد.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) أي فَلَق الحديد.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق،
قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) قال: قطع الحديد.
حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين، قال: ثني
حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس :( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) قال: قطع الحديد.
وقوله( حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ
) يقول عزّ ذكره: فآتو زُبَر الحديد، فجعلها بين الصدفين حتى إذا ساوى بين الجبلين
بما جعل بينهما من زُبر الحديد، ويقال: سوّى.
والصدفان: ما بين ناحيتي الجبلين ورؤوسهما
، ومنه قوله الراجز:
قدْ أخَذَتْ ما بينَ عَرْضِ الصُّدُفَيْنِ...
ناحِيَتَيْها وأعالي الرُّكْنَيْن (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني
معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله( بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) يقول: بين الجبلين.
حدثني محمد، بن سعد، قال: ثني أبي، قال:
ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ
) قال: هو سدّ كان بين صَدَفين، والصدفان: الجبلان.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى "ح" ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:(الصَّدَفَيْنِ) رؤوس الجبلين.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني
حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا
مُعاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) يعني
الجبلين، وهما من قبل أرمينية وأذربيجان.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة( حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) وهما الجبلان.
حدثني أحمد بن يوسف، قال: أخبرنا القاسم،
قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم أنه قرأها( بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) منصوبة الصاد
والدال، وقال: بين الجبلين، وللعرب في الصدفين: لغات ثلاث، وقد قرأ بكلّ واحدة منها
وقوله قَالَ انْفُخُوا ) يقول عزّ ذكره،
قال للفعلة: انفخوا النار على هذه الزبر من الحديد.
وقوله:( حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا
) وفي الكلام متروك، وهو فنفخوا، حتى إذا جعل ما بين الصدفين من الحديد نارا( قَالَ
آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) فاختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء
المدينة والبصرة، وبعض أهل الكوفة( قَالَ آتُونِي ) بمد الألف من( آتُونِي ) بمعنى:
أعطوني قطرا أفرغ عليه. وقرأه بعض قرّاء الكوفة، قال( ائْتُونِي ) بوصل الألف، بمعنى:
جيئوني قِطْرا أفرغ عليه، كما يقال : أخذت الخطام، وأخذت بالخطام، وجئتك زيدا، وجئتك
بزيد. وقد يتوجه معنى ذلك إذا قرئ كذلك إلى معنى أعطوني، فيكون كأن قارئه أراد مد الألف
من آتوني، فترك الهمزة الأولى من آتوني، وإذا سقطت الأولى همز الثانية.
وقوله:(أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) يقول:
أصبّ عليه قِطرا، والقِطْر: النحاس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال:
ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله( أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) قال:
القطر: النحاس.
حدثني محمد بن عمرو ، قال: ثنا أبو عاصم،
قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين، قال: ثني
حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا مُعاذ يقول:
ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله( أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) يعني النحاس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة( أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) أي النحاس ليلزمه به.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق ،
قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله( أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) قال: نحاسا.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل
البصرة يقول: القِطر: الحديد المذاب، ويستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر:
حُساما كَلَوْنِ المِلْحِ صَافٍ حَديدُه...
جُزَارًا مِنْ أقْطارِ الحَديدِ المُنَعَّتِ (1)
وقوله:(فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ
) يقول عزّ ذكره:
فما اسطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوا الردم
الذي جعله ذو القرنين حاجزا بينهم، وبين من دونهم من الناس، فيصيروا فوقه وينزلوا منه
إلى الناس.
يقال منه: ظهر فلان فوق البيت: إذا علاه
، ومنه قول الناس: ظهر فلان على فلان: إذا قهره وعلاه وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا
) يقول: ولم يستطيعوا أن ينقبوه من أسفله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد،
عن قتادة، قوله( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ) من قوله( وَمَا اسْتَطَاعُوا
لَهُ نَقْبًا) أي من أسفله.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ) قال : ما استطاعوا
أن ينزعوه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين ، قال: ثنا
أبو سفيان، عن معمر،
عن قتادة( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ
) قال: أن يرتقوه( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا )
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى
حجاج، عن ابن جريج،( فما استطاعوا أن يظهروه ) قال: أن يرتقُوه( وَمَا اسْتَطَاعُوا
لَهُ نَقْبًا )
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني
حجاج ، عن ابن جريج( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ) قال: يعلوه( وَمَا اسْتَطَاعُوا
لَهُ نَقْبًا ) أي ينقبوه من أسفله.
واختلف أهل العربية في وجه حذف التاء من
قوله:(فَمَا اسْطَاعُوا ) فقال بعض نحويي البصرة: فعل ذلك لأن لغة العرب أن تقول: اسطاع
يسطيع، يريدون بها: استطاع يستطيع، ولكن حذفوا التاء إذا جُمعت مع الطاء ومخرجهما واحد.
قال: وقال بعضهم: استاع، فحذف الطاء لذلك. وقال بعضهم: أسطاع يسطيع، فجعلها من القطع
كأنها أطاع يطيع، فجعل السين عوضًا من إسكان الواو . (1) وقال بعض نحوييّ الكوفة: هذا
حرف استعمل فكثر حتى حذف.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هَذَا
رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ
رَبِّي حَقًّا (98) }
يقول عزّ ذكره: فلما رأى ذو القرنين أن
يأجوج ومأجوج لا يستطيعون أن يظهروا ما بنى من الردم، ولا يقدرون على نقبه، قال: هذا
الذي بنيته وسويته حاجزا بين هذه الأمة، ومن دون الردم رحمة من ربي رحم بها من دون
الردم من الناس، فأعانني برحمته لهم حتى بنيته وسوّيته ليكفّ بذلك غائلة هذه الأمة
عنهم.
وقوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ
دَكَّاءَ ) يقول: فإذا جاء وعد ربي الذي جعله ميقاتا لظهور هذه الأمة وخروجها من وراء
هذا الردم لهم. جعله دكاء، يقول: سواه بالأرض، فألزقه بها، من قولهم: ناقة دكاء: مستوية
الظهر لا سنام لها. وإنما معنى الكلام: جعله مدكوكا، فقيل: دكاء.
وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال:
ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ
) قال: لا أدري الجبلين يعني به، أو ما بينهما.
وذُكر أن ذلك يكون كذلك بعد قتل عيسى ابن
مريم عليه السلام الدجال.
* ذكر الخبر بذلك: حدثني أحمد بن إبراهيم
الدورقي، قال: ثنا هشيم بن بشير، قال: أخبرنا العوّام، عن جبلة بن سحيم، عن مؤثر، وهو
ابن عفارة العبدي ، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لَقِيتُ لَيْلةَ الإسْرَاءِ إبْرَاهيمَ وَمُوسَى وعِيسَى فَتَذَاكرُوا أمْرَ
السَّاعةِ، وَرَدُّوا الأمْرَ إلى إبْرَاهِيمَ فَقالَ إبْرَاهيمُ: لا عِلْمَ لي بِها،
فَرَدُّوا الأمْرَ إلى مُوسَى، فَقالَ مُوسَى: لا عِلْمَ لي بها، فَرَدُّوا الأمْرَ
إلى عِيسَى ؛ قَالَ عِيسَى: أمَّا قِيامُ السَّاعةِ لا يَعْلَمُهُ إلا اللهُ، وَلَكِنَّ
رَبّي قَدْ عَهِدَ إليَّ بِمَا هُوَ كائِنٌ دُونَ وَقْتِها، عَهِدَ إليَّ أنَّ الدَّجَّالَ
خارِجٌ، وأنَّهُ مُهْبِطِي إلَيْهِ، فَذَكَرَ أنَّ مَعَهُ قَصَبَتَيْنِ، فإذَا رآنِي
أهْلَكَهُ اللهُ، قالَ: فَيَذُوبُ كما يذوبُ الرَّصَاصُ، حتى إنَّ الحَجَرَ والشَّجَرَ
لَيَقُولُ: يا مُسْلِمُ هَذَا كافِرٌ فاقْتُلْهُ، فَيُهْلِكُهُمُ اللهُ، ويَرْجِعُ
الناسُ إلى بِلادِهِمْ وأوْطانِهمْ فَيَسْتَقْبِلُهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ مِنْ
كُلِّ حَدبٍ يَنْسِلُونَ، لا يَأْتُونَ عَلى شَيْءٍ إلا أكَلُوهُ، ولا يَمُرُّونَ على
ماءٍ إلا شَرِبُوهُ، فَيْرِجِعُ النَّاسُ إليَّ، فَيَشْكُونَهُمُ ، فأَدْعُو الله عليهم
فيميتهم حتى تَجْوَى الأرْضُ مِنْ نَتِنْ رِيحِهِمْ، فَيَنزلُ المَطَرُ، فَيَجُرُّ
أجْسادَهُم، فيُلْقِيهِمْ فِي البَحْرِ، ثُمَّ يَنْسِفُ الجِبَالَ حتى تَكُونَ الأرْضُ
كالأدِيمِ، فَعَهِدَ إليَّ رَبّي أنَّ ذلكَ إذا كان كذلك، فإنَّ الساعة مِنْهُمُ كالحامِلِ
المُتِمُّ الَّتِي لا يَدْرِي أهْلُها مَتى تَفْجَؤُهُمْ بِوِلادِها ، لَيْلا أوْ نَهَارًا".
حدثني عبيد بن إسماعيل، قال: ثنا المحاربيّ،
عن أصبع بن زيد، عن العوّام بن حوشب، عن جبلة بن سحيم ، عن مؤثر بن عَفازَة، عن عبد
الله بن مسعود، قال: لما أُسْرِي برسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو وإبراهيم
وموسى وعيسى عليهم السلام. فتذاكروا أمر الساعة. فذكر نحو حديث إبراهيم
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ
فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ
يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)
الدورقي عن هشيم، وزاد فيه: قال العوّام
بن حوشب: فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله تعالى، قال الله عز وجل( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ
الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالَ فَإِذَا جَاءَ
وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) يقول: وكان وعد ربي
الذي وعد خلقه في دكّ هذا الردم، وخروج هؤلاء القوم على الناس، وعيثهم فيه، وغير ذلك
من وعده حقا، لأنه لا يخلف الميعاد فلا يقع غير ما وعد أنه كائن.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَكْنَا
بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا
(99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) }
يقول تعالى ذكره: وتركنا عبادنا يوم يأتيهم
وعدنا الذي وعدناهم، بأنا ندكّ الجبال ونَنْسِفها عن الأرض نسفا، فنذرها قاعا صفصفا،
بعضهم يموج في بعض، يقول: يختلط جنهم بإنسهم.
كما ثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي،
عن هارون بن عنترة، عن شيخ من بني فزارة، في قوله( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ
يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال: إذا ماج الجنّ والإنس، قال إبليس: فأنا أعلم لكم علم هذا
الأمر، فيظعن إلى المشرق، فيجد الملائكة قد قطعوا الأرض، ثم يظعن إلى المغرب، فيجد
الملائكة قد قطعوا الأرض، ثم يصعد يمينا وشمالا إلى أقصى الأرض، فيجد الملائكة قطعوا
الأرض، فيقول: ما من مَحِيص، فبينا هو كذلك، إذ عرض له طريق كالشراك، فأخذ عليه هو
وذرّيته، فبينما هم عليه، إذ هجموا على النار، فأخرج الله خازنا من خُزّان النار، قال:
يا إبليس ألم تكن لك المنزلة عند ربك، ألم تكن في الجنان؟ فيقول: ليس هذا يوم عتاب،
لو أن الله فرض علي فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه، فيقول: فإن
الله قد فرض عليك فريضة، فيقول: ما هي؟ فيقول: يأمرك أن تدخل النار، فيتلكأ
عليه، فيقول (1) به وبذرّيته بجناحيه، فيقذفهم
في النار، فَتزفر النار زفرة فلا يبقى مَلَك مقرّب، ولا نبيّ مرسل إلا جثى لركبتيه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال:
قال ابن زيد، في قوله( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال:
هذا أوّل القيامة، ثم نفخ في الصور على أثر ذلك فجمعناهم جمعا ،
( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) قد ذكرنا اختلاف
أهل التأويل فيما مضى في الصُّور، وما هو، وما عُنِي به.
واخترنا الصواب من القول في ذلك بشواهده
المغنية عن إعادته في هذا الموضع، غير أنا نذكر في هذا الموضع بعض ما لم نذكر في ذلك
الموضع من الأخبار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر
بن سليمان، عن أبيه، قال: ثنا أسلم، عن بشر بن شغاف، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ
صلى الله عليه وسلم أن أعرابيا سأله عن الصُّور، قال " قَرنٌ يُنْفَخُ فِيهِ".
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية بن هشام،
عن سفيان، عن سليمان التيمي، عن العجلي، عن بشر بن شغاف، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ
صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا محمد بن الحارث القنطري، قال: ثنا
يحيى بن أبي بكير، قال: كنت في جنازة عمر بن ذرّ فلقيت مالك بن مغول، فحدثنا عن عطية
العوفي، عن أبي سعيد الخُدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كَيْفَ
أَنْعَمُ وَصَاحبُ القَرْنِ قَدْ الْتَقَمَ وَحَنى الجَبَهَةَ ، وأصْغَى بالأذُنِ مَتَى
يُؤْمَرُ ، فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قُولُوا حَسْبُنا
الله وعَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا، وَلَوِ اجْتَمَعَ أهْلُ مِنًى ما أقالُوا ذلك القَرْنَ"
كذا قال، وإنما هو ما أقلوا.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن الحجاج،
عن عطية، عن أبي سعيد الخُدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كَيْفَ
أنْعَمُ
وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ،
وَحَنى ظَهْرَهُ وَجَحَظَ بعَيْنَيْهِ ، قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال : قولوا:
حَسْبُنا اللهُ، تَوَكَّلْنا عَلى اللهِ".
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن فضيل، عن
مطرف، عن عطية، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كَيْفَ
أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ، وَحَنى جَبْهَتَهُ يَسْتَمِعُ
مَتى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ فِيهِ ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف نقول؟
قال : تَقُولُونَ: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، تَوكَّلْنا على اللهِ".
حدثنا أبو كريب والحسن بن عرفة، قالا ثنا
أسباط، عن مطرف، عن عطية، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مثله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا شعيب بن حرب، قال:
ثنا خالد أبو العلاء، قال: ثنا عطية العوفيّ، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : كَيْفَ أَنْعَمُ وصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ
وَحَنى الجَبْهَةَ، وأصْغَى بالأذُنِ مَتَى يُؤْمَرُ أنْ يَنْفُخَ، وَلَوْ أنَّ أهْلَ
مِنًى اجْتَمَعُوا على القَرْنِ على أن يُقِلُّوهُ مِنَ الأرْضِ، ما قَدَرُوا عليه"
قال: فأُبِلسَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشقّ عليهم ، قال: فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : قُولُوا: حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، عَلى اللهِ تَوَكَّلْنا".
حدثنا أبو كريب، قال : ثنا عبد الرحمن بن
محمد المحاربيّ، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد بن فلان، عن رجل من الأنصار، عن
محمد بن كعب الْقُرَظيّ، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: لَمَّا فَرَغَ اللهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ، خَلَقَ الصُّورَ،
فأعطاهُ إسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَضَعَهُ عَلى فِيهِ شاخِصٌ بَصَرُهُ إلى العَرْشِ يَنْتَظِرُ
مَتى يُؤْمَرُ ، قال أبو هريرة: يا رسول الله، ما الصُّور؟ قال : قَرْنٌ ، قال: وكيف
هو؟ قال : قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ: الأولى: نَفْخَةُ الفَزَعِ،
والثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ، والثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ القِيامِ لِرَبّ العالَمِينَ".
وقوله( فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) يقول:
فجمعنا جميع الخلق حينئذ لموقف الحساب جميعا.
وقوله( وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ
لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ) يقول: وأبرزنا جهنم يوم ينفخ في الصور، فأظهرناها للكافرين
بالله، حتى يروها ويعاينوهاالَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي
وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101).
تفسير
الجلالين
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ
إنَّ يَأْجُوج وَمَأْجُوج" بِالْهَمْزِ وَتَرْكه : هُمَا اسْمَانِ
أَعْجَمِيَّانِ لِقَبِيلَتَيْنِ فَلَمْ يَنْصَرِفَا "مُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْض" بِالنَّهْبِ وَالْبَغْي عِنْد خُرُوجهمْ إلَيْنَا "فَهَلْ
نَجْعَل لَك خَرْجًا" جُعْلًا مِنْ الْمَال وَفِي قِرَاءَة خَرَاجًا
"عَلَى أَنْ تَجْعَل بَيْننَا وَبَيْنهمْ سَدًّا" حَاجِزًا فَلَا
يُصَلُّونَ إلَيْنَا.
ولعل بقية التفاسير ستسير على المنوال نفسه .
الخلاصة :
والحق أن يأجوج ومأجوج ليسا
بقبيلتين ولا بأمتين عظيمتين , ولا هم يحزنون . إنهما ما عبرنا عنه بماء البحر ,
أو السيل المختلط بالصخور والأتربة , وحسب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق