الدكتورعبدالسلام الكبسي
" نحو منهج نقدي تصنيفي جديد " : -
1.
الإختلاف
2.
الإيقاع الشخصي
3.
الشاعرية
4.
الصياغة النهائية
.
مفتتح
بشأن المقترح النقدي
التصنيفي الجديد
قادنا التأمل، في الثقافة العربية القديمة والمعاصرة من خلال الشعر إلى ما أسميناه بالمقترح (المنهج) النقدي التصنيفي الجديد القديم في الآن ذاته. أي أن اشتغالنا كان قد بدأ من الجزئي، ثم أفضى إلى الكلي كنتيجة متقدمة من البحث في مفهوم القصيدة، من حيث الماهية، والتجربة كخبرة واختبار، كمعرفة ويقين إلى حد بلغنا فيه ـ دون أن نتعمد ذلك ـ مرحلة التصنيف (أي تصنيف التجربة الشعرية)، وذلك عبر تقسيمنا ـ، تصنيفاً، الشعراء إلى خمسة، لا في الثقافة العربية فحسب، وإنما في عموم الثقافات الإنسانية جمعاء. انطلاقاً من بديهية (وكانت في الحقيقة، هي أم الإشكاليات في الأطروحة) تتجسد في الكيفية: كيف تكون شاعراً مختلفاً؟(1)
مستأنسين في ذلك بمنهج الدكتور ساموئيل
جونسون الذي كان، دائماً، يقرأ كل شاعر جديد مطبقاً امتحاناً واحداً: هل من جديد
تم اكتشافه على يد هذا الشاعر؟ أي أننا ـ وبناءاُ على منهج ساموئيل جونسون
نفسه ـ "عندما نفتح ديواناً أولاً من الشعر هذه الأيام [ينبغي علينا
أن] نصغي ملياً ، أول ما نصغي ، للتعرف على صوت متميز، إذا استطعنا[بالخبرة
والذائقة معاً]، وإذا لم يكن الصوت إلى حد ما مختلفاً عن إيقاع الأسلاف
والمعاصرين، فإننا نميل إلى التوقف عن الأصغاء، بغض النظر عما يريد هذا الصوت أن
يقوله".(2)
وإذا كان النقد، حسب هارولد بلوم،
"هو فن معرفة الدروب التي تقود من قصيدة
إلى قصيدة"(3)، فإنه (أي النقد نفسه) هو الذي مهد لنا
الطريق لفتح هذا الباب الجديد القديم في آن واحد، عبر ما كنا قد أسميناه قبل قليل
بالمقترح النقدي التصنيفي الجديد، الذي
نتمنى من خلاله أن نكون مختلفين في الإجابة عن أسئلة كثيرة ومتعددة، بارزة ومضمرة
في الوقت نفسه، انطلاقاً من المبادئ الجمالية الأساسية التي من المفترض أنها شملت
الشعر كله، وبناءاً ـ أيضاً ـ على ما تطالبنا به القصائد العظيمة، حسب بروكس،(4) بمراجعة
مفاهيمنا عن الشعر من جديد، وبقوة. وقد حاولنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً،
تقرير كل ذلك والنمذجة لكل محور من محاور المقترح النقدي الآنف الذكر، بحصرنا، على
وجه الرصد، لكل جديد طرأ عبر العصور، من خلال أشهر، وأدق النماذج بشمولية، وتركيز، ومن ثم تصنيف كل ذلك في درجته المقترحة
واللائقة به بصرامة منهجية، في النقد والتحليل معاً. ولعل الجديد الذي خرجنا به
عبر هذه الرحلة الطويلة هو ما سوف نلخص المهم منه , في النقاط التالية :
1 ـ مقياس المتعة، وذلك في الباب الأول،
بجانب المقاييس القديمة والمعاصرة المعروفة، وآلته الذائقة و" القصائد ، كما
يؤكد لنا النقد دائماً يجب أن تمنح اللذة"(55)
2 ـ
يبدو أن الشعرية القديمة والمعاصرة لم تعتن بجانب ما أسميناه بالصياغة
النهائية للتجربة الإنسانية من حيث انشغال الأولى بقضايا نقدية لا علاقة لها بما
نحن بصدده على وجه المباشرة والتحديث، كما حدث معنا. فإذا كان الأقدمون قد لامسوا
الموضوع من بعيد (كما هو حال الجرجاني عبد القاهر) لانصرافهم نحو نماذج لا تشي
بقوة في طرق المسألة (مسألة الصياغة النهائية، كما طرقناها)، وطرحها، ربما لانشغال
الأولين بالإعجاز، واندفاع المتأخرين نحو التنظير لمسألة قريبة وبعيدة عن المرمى
نفسه كالتداخل النصي، أو ما شابه ذلك.
3 ـ أخيراً، نستطيع ، بهذا المقترح
النقدي نظراُ لإجرائيته، وما تتمتع به هذه الأخيرة من مرونة ، ودقة، أن نستوعب ،
وقد حدث ذلك ، كل التجارب الإبداعية عبر العصور، وفي كل الثقافات الإنسانية، حتى
الامتداد: نقداً، وتصنيفاً ، رصداً
وتحليلاً...، وهو ما تتغياه كل شعرية عملية، وجادة في ظل هذا الركام من
المناهج والنظريات التي لا طائل تحتها ـ غالباً ـ ، ولا نتيجة متوخاة منها، نظراً
لانصراف الباحثين والشاعريين إلى التنظير والتحليل على أهميتهما، بدلاً من النقد
كفن وتجربة معاً، إن لم يكن شيئاً أكثر من ذلك آخر، في تسلق علياء الجبال، وارتياد
المرافئ ، والمنعطفات من قصيدة إلى قصيدة ، لا من خلال الرسوم والخرائط – حسب
ماكليش , أو ما شابه ذلك مما لا يفضي إلى نتيجة حاسمة.
ومع ذلك ـ بصدد مقترحنا النقدي التصنيفي ـ يظل الباب مفتوحاً، والسؤال معلقاً، إذ لا إجابة شافية لما هو أزلي، وابدي معاً , أو بمعنى أصح لما هو نسبي على الدوام .
والمهم في المسألة برمتها ـ كما نرى ـ
هو محاولتنا الحماسية في الإضاءة بقوة السؤال الإبداعي الكبير: كيف نكون مختلفين؟.
الباب الأول
ماهية القصيدة الشعرية
اختراق المسائل التنظيرية بالآلة
النقدية
الفصل الأول
ماهية القصيدة الشعرية
1.
ماهية الشعر
1.1. الشعر عصي على التعريف
يأبى
الشعر " أن يدخل في حدود التعريف، لأنه يأبى إلا أن يكون جوهراً، ولأن هذا
الجوهر يستمد وجوده من صميم الأشياء التي لا توصف ". (1)
إن
ذلك ما يراه أغلب الشاعريين في مختلف الثقافات الإنسانية على وجه التقريب فالسؤال
:ماهو الشعر؟ على ما يبدو، من خلال استقرائنا لكثير مما قيل بهذا الشأن، لا جواب
عليه نهائياً. ربما، لأن " الجواب كل جواب، يستند إلى قواعد ومقاييس. والشعر
خرق مستمر للقواعد والمقاييس "،(2) في ذهاب هذا الأخير، نحو الأبعد، من تلك
الأحوال التي " ترجع إلى أجراس الحروف، وإلى ظاهر الوضع اللغوي"(3) ـ
حسب عبد القاهر الجرجاني الذي سيرى إلى أن المسألة ، برمتها، متعلقة بتلك التجربة
التي يعيشها ما كان قد عبر عنه بـ " القارئ البصير بجواهر الكلام" (4)،
وذلك عند انتهائه من قراءة أي عمل إبداعي، حيث يقول :"فإذا رأيت البصير
بجواهر الكلام يستحسن شعراً، أو يستجيد نثراً، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ
فيقول: حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال
ترجع إلى أجراس الحروف، وإلى ظاهر الوضع اللغوي، بل إلى أمر يقع من المرء في
فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده".(5)
فالشعر
،كماهية، عصي على التعريف، عصي على القبض،، عصي على الوضوح، وإن أي " توضيح
للشعر يقتل الشعر، يقتله بمنطق العقل، ويقتله بالحبس بين جدران الألفاظ، ويقتله
بالنأي عن مداه الحيوي ".(6)
لكن،
وعلى الرغم، من توصل الشاعريين إلى قناعة أكيدة، بأنه لا يوجد ثمة جواب للسؤال:
ماهو الشعر؟ إلا أنهم ظلوا في كل لحظة، مطالبين بالإجابة عن هذا السؤال الكبير.
فما هو الشعر؟
يقول
صلاح عبد الصبور بأنه " سؤال لو عرف إجابته أحدنا لقطع الطريق على القبيلة
كلها. لقد أدرك الجميع حتى سادتنا العظماء من أمثال شكسبير والمعري أطرافاً من
جوابه، ولذلك فلن أتصدى للإجابة الجامعة المانعة، بل أحكي عن الجانب الذي أدركته.
الشعر صوت منفعل. إنسان يتميز عن الآخرين بقدر ما يتشابه معهم، والانفعال المدرب
هو عدة الشاعر فلست أحب لنفسي ولا لأحد من الشعراء أن يكون صوته مندغماً ضائعاً في
الأصوات الأخرى".(7)
ويصرح محمود درويش، في بيان، له ،بعنوان
:"أنقذونا من هذا الشعر"، بأنه يجهل، تماما، ماهية الشعر، ولا يعرف ما
هو الشعر، وإن كان يعرف، في المقابل، تمام المعرفة "ما ليس شعرا" (8)،
حيث يقول : " إنني لا أعرف ماهو الشعر، ولكنني بقدر ما أجهل هذه الماهية،
أعرف تمام المعرفة ما ليس شعراً. ما ليس شعراً بالنسبة لي، هو ما لا يغيرني، ما لا
يأخذ مني شيئاً ولا يعطيني لوعة أو فرحاً، هو ما لا يقدم لي أحد مبررات وجودي
وإقامتي على هذه الأرض، وهو مالا يبرهن لي جدواي وقدرتي على الخلق، هو ما لا يقدم
لي الوجود في كأس ماء ينكسر. في اختصار: إن إدراكي لما ليس شعراً هو طريقتي في
الاقتراب من إدراك الشعر، لأننا بالواضح نفسر الغامض، وليس بالعكس ".(9)
وبعيداً، عما تحمله عبارة درويش من
طوباوية، بخصوص مبررات وجود الشاعر على الأرض، في كأس ماء ينكسر- على حد قوله، إِذ
أن ذلك من شأن الأديان السماوية لا الشعر، كنشاط إنساني، سنتعرض بشيء من التفصيل
إلى بعض فوائده فيما بعد، فإن فيها ( أي عبارة درويش) نقداً لعبد القاهر الجرجاني
ولسان الدين الخطيب، الذين كانا قد تفردا باجتهادهما للإجابة عن أسئلة الشعر بقلق
معرفي، عز أن نجد له نظيراً، في عموم الثقافة العربية القديمة بكاملها..، نقداً
لهما عندما حاولا ملامسة الشعر كماهيةٍ ، فوقعا في تفسير-ما انتقده درويش- الغامض
بالغامض. لننصت إلى عبد القاهر الجرجاني عبر نصه الطويل نسبياً،
حيث يقول : " فالاحتفال والصنعة في
التصويرات التي تروق السامعين وتروعهم، والتخييلات التي تهز الممدوحين وتحركهم،
وتفعل فعلاً شبيهاً بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير التي يشكلها الحذاق
بالتخطيط والنقش، أو بالنحت والنقر. فكما أن تلك تعجب وتخلب، وتروق وتؤنق، وتدخل
النفس من مشاهدتها حالة غريبة لم تكن قبل رؤيتها، ويغشاها ضرب من الفتنة لا ينكر
مكانه، ولا يخفى شأنه. فقد عرفت قضية الأصنام وما عليه أصحابها من الافتتان بها
والإعظام لها. كذلك حكم الشعر فيما يصنعه من الصور، ويشكله من البدع، ويوقعه في
النفوس من المعاني التي يتوهم بها الجماد الصامت في صورة الحي الناطق، والموات
الأخرس في قضية الفصيح المعرب والمبين المميز، والمعدوم المفقود في حكم الموجود
المشاهد، كما قدمت القول عليه في باب التمثيل، حتى يكسب الدنى رفعةً، والغامض
القدر نباهةً. وعلى العكس يغض من شرف الشريف، ويطأ من قدر ذي العزة المنيف، ويظلم
الفضل ويتهضمه، ويخدش وجه الجمال ويتخونه، ويعطي الشبهة سلطان الحجة، ويرد الحجة
إلى صيغة الشبهة، ويصنع من المادة الخسيسة بدعاً تغلو في القيمة وتعلو، ويفعل من
قلب الجواهر وتبديل الطبائع ما ترى به الكيمياء وقد صحت، ودعوى الإكسير وقد وضحت،
إلا أنها روحانية تتلبس بالأوهام والأفهام، دون الأجسام والأجرام ".(10) فقد
فسر الماهية، وإن كان قد أرجع السر في ذلك إلى قوة الصنعة في كياستها، ولطفها،
وإتقانها، وانسجامها، وتماهيها لفظاً ومعنى، بماهية شبيهة، تحدثها التصاوير التي
يشكلها الحذاق بالتخطيط والنقش في نفس الناظر، في المرة الأولى، وبفتنة الأصنام،في
المرة الثانية. وهو تفسير يتخذ من المماثلة وسيلة لتبيانها (أي الماهية)،في الوقت
الذي لا ينجح في الإمساك ،بها لأنها روح، أو أنها شبيهة بالروح. والروح لا تدرك
لمساً، إنما تستشعر استشعاراً. وآلة ذلك، ما عبر عنه الجرجاني، في موضع ثان، بـ
" الذوق وإحساس النفس" (11)، حيث من الطبيعي أن يكون هذا الأخير قليلاً
في الناس " حتى إنه ليكون أن يقع للرجل الشيء من هذه الفروق والوجوه في شعر
يقوله، أو رسالة يكتبها، الموقع الحسن. ثم لا يعلم أنه قد أحسن ".(12)
وهو نفسه ما رآه لسان الدين الخطيب الذي
كان مباشراً في التصريح بأنه (أي الشعر) يمتلك القوة نفسها التي يتمتع بها السحر
في الظهور والأحوال، والعادات والهيئات، فإذا " عضد بما يناسبه، وتفضي إليه
مذاهبه وقرنت به الألحان على اختلاف حالاتها، وما يقتضيه قوى استحالاتها، عظم
الأثر، وظهرت العبر، فشجع وأقدم وسهر وقوم وحبب السخاء إلى النفس وشهى، وأضحك حتى
ألهى، وأحزن وأبكى وكثير من ذلك يحكى، وهذه قوى سحرية، ومعان بالإضافة إلى السحر
مرية".(13)
إن ما طرحه ،هنا، لسان الدين الخطيب، لا
يختلف كثيراً، أو قليلاً عما كان الجرجاني قد قاله، بشأن قوى الشعر، ومدى أهمية
وخطورة فعله الشعري، وإن كان الخطيب قد زاد حين أوجب " أن يسمى الصنف من
الشعر الذي يخلب النفوس ويستفزها، ويلين الأعطاف ويهزها باسم السحر الذي ظهرت عليه
آثار طباعه، وتبين أنه نوع من أنواعه ".(14)
وهو ما لاقى صدى عند ناقد معاصر هو جبرا
ابراهيم جبرا، الذي سيرى، بعد قرون، أن الشعر " كالسحر والقول المأثور:
" إن من البيان لسحرا"، قد يعتبر تعريفاً هاماً للشعر. والسحر يعتمد على
غوامض تثير النفس، أو تهزها، دون أن يحاول المرء استكناهها. وقد يثير السحر اللفظي
الذهن أيضاً، دون أن يستطيع تحليل السر في هذه الآثار.فالشعر يتصل بالهزة النفسية
أو الذهنية، وبالتالي، بالدهشة والعجب".(15)
وغير هذه التعاريف، التي بقدر محاولتها
الاقتراب من جوهر الشعر، ألغزت ماهيته وذلك مثلما مر، بتفسيرها الغامض بالغامض،
وهو ما يعطي تعريف الأصمعي ،التالي ،الأولوية على نحو ملموس ،في تعريفه للشعر من
أنه الشيء الذي لا يمكن إدراكه، وإن أُحس به على نحو ما. فـ" الشعر ماقل لفظه
وسهل ودق معناه ولطف، والذي إذا سمعته ظننت أنك تناله فإذا حاولته وجدته
بعيداً".(16)
علاوة على ما يحمله (أي تعريف الأصمعي)
من حكم نقدي. وبناءً عليه، فالشعر هو السهل الممتنع، أو هو نفسه ما عبر عنه بشلار،
بقوله : " لا أحد يعرف أننا حين نقرأ الشعر فإننا نعيش مرة أخرى إغراء أن
نكون شعراء".(17)
ولعلنا لن نجافي الحقيقة بهذا الشأن،
إذا قلنا أن أهم وأجمل ما خرجنا به من استقرائنا لأغلب الآراء النقدية في الثقافة
العربية برمتها هو ما كان قد ضمنه الجمحي في طبقاته، من رواية لـ "سليمان بن
اسحاق الريال عن يونس، قال: الشعر كالسراء (المرؤة/ السخاء/الشرف) والشجاعة
والجمال، لا ينتهي منه إلى غاية ".(18)
وهي عبارة لا تدعي الإحاطة بماهية الشعر
بقدر تميزها، على نحو المغايرة ، من حيث أسلوب التعبير ،لكل تعريف للشعر حتى هذه
اللحظة، على الرغم من قدمها، وإهمال الشاعريين لها، إذ لم يحدث أن وقف- في حدود
علمنا- عليها باحث، ولو على سبيل الإشارة، أو الاستئناس، رغماً من الحاجة الماسة
التي يقتضيها أي بحث متعلق بالقصيدة القديمة، أو المعاصرة. ونتيجة لعدم جدوى
التعاريف، برغم أهميتها، فقد رأينا أن الطرق الإجرائية، التي كان قد تقدم عبرها
الشاعريون في ملامستهم، بحثا، عن جواب للسؤال: ما هو الشعر؟ أجدى في الوصول إلى
نتائج حقيقية، وملموسة، على نحو دقيق، نظراً لتعدد آلياتها، واختلاف أساليبها.
2.1. اختراق المسائل التنظيرية بالآلة
النقدية
وباستبعادنا للطريقة التي كان قد
اقترحها كولردج لحل مشكلة الماهية في الشعر، وذلك بإعادتنا صياغة السؤال التقليدي
نفسه : ما هو الشعر ؟
ب : ماهو الشاعر ؟ " إذ أن الإجابة
على أحدهما مضمنة في إيضاح الآخر. لأن التمييز ناجم عن العبقرية الشعرية نفسها
التي تحفظ الصور والأفكار والعواطف التي في ذهن الشاعر، وتعدلها " (19).
وعلى الرغم من أهمية هذا الطرح الذي
سيلاقي صدىً وقبولاً عند الكثيرين أمثال وردزورث الذي كان قد تقدم في " مقدمة
الطبعة الثانية من ديوان حكايات غنائية Lyrical Bollo
إلى عرض رأيه في ماهية الشعر وموضع قيمته وذلك بالتساؤل : ماهو الشاعر؟ ولمن يتوجه
بشعره؟ وأي لغة ترجى منه؟" (20).
إلا أن رأيه غير مضمون النتائج، لافتقاره إلى
الآلية، على نحو تطبيقي. لذلك نفسح المجال لماكليش الذي سيقترح علينا أن نتبع ثلاث
خطوات، مضمونة برأيه، للوصول إلى نتائج سليمة ومرضية. الأولى : تتجسد في افتراض
المرء لـ" وجود شيء إسمه شعر، وثم يسعى ليستكشفه"(21). ذلك لأن"
الغاية جميعها في سعي المرء وراء الشعر هي أن يكتشف، عندما يتوصل إليه، ماهية
القصيدة" (22).
إلا أن ثمة صعوبة رئيسة في هذا السعي، تكمن في
احتمال الوقوع في الخطأ عند البداية " فالسعي وراء الشعر يجب أن يبدأ إجمالاً
حيث يأمل أن ينتهي، أي بتقرير عن هدف هذا المسعى. وهنا يكمن الخطر. فأنت إن بدأت
بتقرير خاطئ، انتهى تقريرك إلى أن تصور عنقاء خاطئة أو كركدناً خاطئاً أو أي مخلوق
أسطوري يتكشف في النهاية " (23).
لذلك كان لابد – كخطوة ثانية- من الاعتماد على
شاعر كبير مجرب. فالمرء، كما يقول ارشيبالد ماكليش "في ميدان الشعر بحاجة إلى
رائد ثقة، رجل رأى واستبان ثم عاد، ولن يكون هذا الرائد إلا شاعراً، أما النقاد
فهم كمن يضع خرائط لجبال العالم الذي يرودونه، غير أنهم هم أنفسهم لم يتسلقوا تلك
الجبال قط".(24)
وهي رؤية سديدة إلى حد ما، وإن كنا
نخالفه بشأن النقاد، بقصدنا الذين يحملون صفة الامتياز،باعتبارهم القراء المتلقين
الأوائل لأي عمل إبداعي، ونظراً لامتلاكهم المقاييس التي تخول لهم المرور بالتجربة
نفسها التي كان الشاعر قد مر بها أثناء مواجهته للعالم. وإن كانت تلك المواجهة
(مواجهتهم) من خلال وسيط، هو اللغة- لغة القصيدة مثلاً. لكن، ومع ذلك، فليس من سمع
كمن رأى رأي القلب، وعاش، وسبر، وخبر، ثم عاد ليحدثنا عن ذلك الشيء الذي "
يتنقل بطريقة ما بين العالم والإنسان" (25) من جهة أولى، وعن الذي يربط
بينهما (أي بين الإنسان والعالم)، وبين القصيدة الشعرية ، من جهة ثانية. وإذا كان
البحث عن الشعر لا يتأتى إلا حيث يوجد " إذا لم يكن ذلك بالتحديد فبقدر أكبر
من العناية، أي في الفن الذي ولد منه الشعر، واستقى منه اسمه، أي في هذا الصنف
الذي دعي قصيدة" (26) ـ على حد ماكليش، ف" إبدأ إذن بقصيدة- استعر مقبض
فأس ليكون نموذجاً لمقبض الفأس الذي ستقوم بمحاولة صقله " (27).
تلك، إذن، هي الخطوة الثالثة ، والأخيرة
، في مقترح ماكليش. وهي خطوة شجاعة وأمينة، علاوة على أهميتها، على نحو إجرائي، في
مسار أي بحث، أو دراسة نريد أن نحقق من خلالها شيئاً ذا بال، في معالجة لغز الشعر.
ت.س. أليوت يؤكد، هو أيضاً، على أن
المعرفة بالشعر لا تتأتى إلا من خلال " تجربتنا مع القصائد" (28) فلكي
يصل الإنسان إلى ماهية الشعر، التي ليس في وسعه أن يتعرف إليها بصفة خاصة إلا إذا
كانت لديه ما أسماه أليوت ب "الفكرة الداخلية" (29)، لا بد له " أن
يتوسل بالوسيلة النقدية" (30)، أي " بفحص نتاج الشاعر" (31)، وهو
ما يتوافق فيه أليوت ووردزورث الذي كان قد حاول " تفسير الشعر والدفاع عنه
وتعريفه وذلك بالتساؤل عن كيفية إبداعه".(32)
جون كوهن، بعد أن يكشف النقاب عن أن ثمة
صعوبةً تنبع من " كون الشعرية تعبر عن نفسها بواسطة النثر فالشعر هو اللغة-
الموضوع للغة واصفة هي النثر. ويبدو أن هذا التباين الأساسي قد حكم على الشعرية
بتضييع جوهر موضوعها نفسه فهي تسطح الشعر تسطيحاً نهائياً بمجرد ما تتحدث عنه نثراً
"،(33) يرى أنه ينبغي أن يتم التمييز أولاً بين " عملية الاستهلاك وهي
جمالية" (34) محضة، ترتبط، ارتباطاً مباشراً،بالذوق (أي تذوق القصيدة)، وبين
" عملية التأمل" (35) التي تسلك سلوكاً علمياً وترتبط بالمعرفة. ومعلوم
أن معرفة القصيدة مثلاً، غير تذوقها " لذا كان من الطبيعي أن يعبر عن هاتين
العمليتين المختلفتين بلغتين مختلفتين " (36) كخطوة أولى. ثم ينتقل، كخطوة
ثانية إلى وضع مقترح- كحل منهاجي- يقضي بأن نواجه الشعر بالنثر للوصول إلى ماهية
الشعر.وكما أن لهذا الأخير طرائقه الخاصة والمتميزة فإن للنثر طرائقه هو أيضاً،
غير أن " كثرة الانزياحات هي ما يفرق بين الشعر والنثر" (37)، وإن كانت
الفروقات كمية أكثر مما هي نوعية. وغير ذلك، يرى جون كوهن، أن ثمة خصوصيات على
المستوى الصوتي والدلالي معاً " فخصوصيات المستوى الصوتي قد قننت ووضعت لها
الأسماء. فكل شكل لغوي يحمل مظهره الصوتي هذه الخصائص ندعوه نظماً ولكون هذه
الخصائص قد صارت اليوم مقننة بصرامة ومرئية بشكل مباشر فما فتئت تكون في نظر
الجمهور مقياساً للشعر" (38).
والحقيقة أن المقارنة بين الشعر والنثر،
على الرغم من أهميتها، للوصول إلى الشعر كماهية، يمكن أن لا تكون مجدية دائماً،
وإن كانت واحدة من الطرق التقليدية إلى اكتشاف الشعر، والتي مازالت مؤثرة في مجال
النقد، خصوصاً كلما اقتربنا من حد الشعر، أو بمعنى أصح، كلما تواضعنا على وضع حد
له.
2. حد الشعر
1.2. الشعر كتابة عروضية
إن الإجابة عن سؤال من نوع : متى بدأ
الشعر العربي بدايته الصحيحة، كقصيدة في القديم ؟ مهمة للاقتراب من مفهوم كلمة
شعر، وذلك قبل الانتقال إلى مسألة حد الشعر، سواء من حيث معناها المعجمي أو
الاصطلاحي. ونقول بالنسبة لما كان قد وصل إلينا من الأشعار العربية القديمة،
وبالتحديد أشعار ما قبل الإسلام، أنه من غير الممكن- لنضجها وعمقها- أن نمنحها صفة
البدائية ، إذ، قطعاً، أن ثمة مراحل مخاض- مفترضة- كان قد مر بها، حتى أصبح على ما
هو عليه من التميز، والعمق، والاقتدار والأصالة. يبدو،من كلام ابن رشيق القيرواني،
أن النثر هو الأب الحقيقي للشعر حيث كان الكلام كله منثوراً، فاحتاجت العرب إلى
الغناء بمكارم الأخلاق " لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم،
فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعراً، لأنهم قد
شعروا به، أي فطنوا" (39).
وعطفاً على هذه الأخيرة، فإن تسمية
الشعر قد جاءت من الشعور، وهو أهم وأقوى فطرةً في الإنسان لارتباطه بمداركه
الروحية، قبل الحسية ، في ما له علاقة مباشرةً بالذكاء "فالشعر الفطنة، كأن
الشاعر عندهم قد فطن لتأليف الكلام"(40) حسب ابن سنان.
ويضيف ، في نضرة الأغريض ، المظفر بن
الفضل إلى الفطنة، بخصوص الشعر ، العلم والإدراك، قائلاً: " تقول ليت شعري هل
أصاب صوب السماء منازل أسماء، أي ليت علمي" (41).
وإذا كان الشعر ، تأسيساً على ما سبق،
ومثلما جاء في كتاب التعريفات لعلي محمد
الجرجاني، لغةً هو العلم(42)، بمعنى الإدارك أو الشعور، الفطنة أو
الذكاء..، فماذا عنه في الاصطلاح؟ نطرح هذا السؤال، لا على سبيل الاجترار، بتكرار ما كان قد قيل في
هذا الجانب، ولا على وجه التقليد، باحتذاء الكثير جداً، من البحوث والطروحات التي
دارت بالطريقة نفسها، مما لم يسفر دورانها ذلك ، عن جديد يذكر. في الوقت الذي لا
ندعي فيه، بإيرادنا، عن هذا السؤال، بعض المقولات القديمة الجديدة، إلا فيما يتعلق
بالإشارة إلى أن الكثير من الشاعريين عند تعريفهم للشعر يخلطون بين الماهية والحد،
وخصوصاً في كتابات بعض المعاصرين، إن لم يكن أغلبهم، مثلما حصل، مثلاً، مع إبراهيم
المازني في نقده لقدامة بن جعفر الذي كان قد حد الشعر، قديماً، بقوله:" إنه
قول موزون مقفى، يدل على معنى" (43)، إذ ليس- والكلام، الآن للمازني
"يكفي في تعريفه مثلاً أن يقال أنه الكلام الموزون المقفى فإن هذا خليق أن
يدخل فيه ما ليس منه ولا قلامة ظفر، وإنما نظر القائل إلى الشعر من جهة الوزن
وأغفل ما عداها " (44).
والحقيقة أن قدامة ،من جانب، لم يكن
بصدد التعريف للشعر كماهية، إذ كان في ذهنه الفرق بين الشيئين (أي الماهية والحد)
عندما وضع تعريفه المشهور كحد للشعر. ومن جانب ثان، فإن قدامة لم ينظر – مثلما
تفضل المازني- إلى الشعر من جهة الوزن وحدها، وأغفل ما عداها بدليل إلمامه-
وبأسلوب مركز- بكل مستوياته الثلاثة حيث اللغة، بقوله : " فقولنا: قول: دال
على أصل الكلام الذي هو بمنزلة الجنس للشعر" (45)، والإيقاع بقوله : "
وقولنا: موزون : يفصله مما ليس بموزون، إذ كان من القول موزون وغير موزون. وقولنا
مقفى: فصل بين ما له من الكلام الموزون قواف، وبين مالا قوافي له ولا مقاطع"
(46) ، وأخيراً الدلالة بقوله : " وقولنا: يدل على معنى: يفصل ما جرى من
القول على قافية ووزن مع دلالة على معنى مما جرى على ذلك من غير دلالة على معنى
فإنه لو أراد مزيد أن يعمل من ذلك شيئاً كثيراً على هذه الجهة لأمكنه وما تعذر
عليه " (47).
وبهذا يكون قدامة قد أكد على أن يتمتع
الشعر، كشرط جوهري، بمستوياته الثلاثة. وفي حالة إغفال واحد منها، فإنه (أي الشعر)
سيسقط حتماً إلى درك النثر. وقدامة، بتأكيدهِ على المستوى الثالث (الدلالة)، يكون
قد أغلق الباب في وجه- إن جاز لنا القول- شعرية اللامعنى: من قول كل شيء، في أي
شيء، من أجل لا شيء: وهو ما يتناقض وروح الشعر، تحديداً، بالدلالة كتجربة تتغيا
(من الغاية) ، كونها إنسانية، الإنسان نفسه. أو مثلما حصل، أيضاً، مع محمود درويش
الذي لم يكن له، باعتباره شاعراً لا ناقداً، أن ينطلق بإدراكه أن ثمة فرقاً بين
الحد والماهية، ليقطع النقاش في هذا الجانب، وإن لم يرفض، بحكم فطرته كشاعر أصيل،
هذا التعريف (تعريف قدامة) الضيق على حده. وباعتبار أن رفضنا غير مجد في مثل هذه
الحالة لنقول أن "الشعر هو ما ليس كلاماً موزوناً مقفى، ولا يعبر عن
شيء".(48)
وهو ما لم يحدث أن انسحب (ما حصل لمحمود
درويش) على الشاعر ج. ف. كننجهام بعد أن راح، هذا الأخير، على امتداد ساعة كاملة
يتكلم في الشعر من حيث خلوصه، لاتضاح الرؤية لديه، وثباتها- إلى القول- في أقل قدر
من الكلمات- بأنه " لا يستطيع إلا أن يقول إن الشعر كتابة عروضية، وقال أيضاً
أنه لا يعرف إن كان الشعر يعني شيئاً غير ذلك" (49).
وقد أوردنا كنـنجهام هنا، لا من باب
المقارنة مع درويش، أو الانتصار لقدامة بن جعفر ضد من لا يفضلون الدخول إلى الشعر
بتعريفه، أو ما شابه ذلك. بل بغرض الإشارة إلى أنه من الممكن، في مختلف الثقافات
الإنسانية، الحديث عن الشعر كماهية،بعيدا،ً عن الوزن والقافية ، في الوقت نفسه
الذي من غير الممكن فيه الحديث عن الشعر كقصيدة، وعلى نحو إجرائي، باستبعادنا
للوزن، كحد له.
2.2. أهمية الوزن
بعيداً عن التداعيات القديمة، بشأن
تمييز الشعر من النثر ،من خلال القيم، كأن يجوز للشاعر قوله في الشعر ما لا يجوز
في النثر، أو من خلال ما سمي بالضرورات الشعرية، أو من خلال وجود من يؤكد على أساليب تخص الشعر، ولا يتمتع بها النثر،إلى ما
لم يجر على هذه الأساليب فليس بشعر "إنما هو كلام منظوم" (50)، أو بمعنى
آخر " إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف" (51). في الوقت الذي يكون فيه
للنثر أساليبه التي تخصه، وتميزه عن الشعر هو أيضاً، لذا كان التفريق بينهما (أي
الشعر والنثر) من هذا الباب أوجب، وأضمن، ممن كان قد دخل إليهما عن طريق النظم-
على حد ابن خلدون، الذي يوافقه أدونيس في التداعيات المعاصرة عبر ما سمي بالقصيدة النثرية،
بتعديد هذا الأخير للفروق بينهما. لعل " أول هذه الفروق هو أن النثر إطراد
وتتابع لأفكار ما، في حين أن الإطراد ليس ضرورياً في الشعر. وثانيها، هو أن النثر
يطمح إلى أن ينقل فكرة محددة، ولذلك يطمح أن يكون واضحاً أما الشعر فيطمح إلى أن
ينقل شعوراً أو تجربة أو رؤيا، ولذلك فإن أسلوبه غامض، بطبيعته، ثالث هذه الفروق
هو أن النثر وصفي تقريري، ذو غاية خارجية معينة ومحددة، بينما غاية الشعر هي في
نفسه فمعناه يتجدد دائماً بتجدد قارئه " (52)، أو من خلال قصة عبد الرحمن بن
حسان بن ثابت مع أبيه وذلك " أنه رجع إلى أبيه حسان وهو صبي، يبكي، ويقول :
" لسعني طائر"، فقال حسان : "صفه يا بني"، فقال: كأنه ملتف في
بردى حبره، وكان لسعه زنبور، فقال حسان: قال ابني الشعر ورب الكعبة " (53).
وعليه نظر إلى الشعر من الزاوية نفسها،
التي كان قد ألمح إليها حسان، بتجييرها على نحو ما حدث مع بعض المعاصرين،ليس هنا
مكانه. أو من خلال من كان قد رأى أن الوزن وحده لم يكن كافياً، لتمييز الشعر من
النثر بحجة أن ثمة رسائل في النحو والفقه، والفلسفة، والطب، وغير ذلك من العلوم
الإنسانية، التي كانت قد كتبت، إن جاز القول، شعراً.. بعيداً عن كل ذلك، نقول- معلقين-
: إنَّ الوزن هو البرزخ الفاصل بين النثر والشعر، لأنه جوهري في الشعر، وليس
بالعرض الهين الذي يستغنى عنه، أو الحلية التي تبلى مع الزمن. وإذا كانت الأساليب
هي ما يمكن أن تنوجد في النثر والشعر، على حد سواء، في إمكانية إفادة هذا من ذاك،
فإن الوزن هو ما تفترق عنده الطموحات، وتتناصف الأهواء. ألا ترى أن اختلال بيت من
الشعر، بسقوط كلمة واحدة مفردة في شطر منه . أو في العجز ، يفقد ،معها ،البيت
الشعري كله شعريته. نقرأ في كتاب صنعة الشعر للسيرا في: " ورأيت بخط هذا
الرجل بيتاً لبعض الشعراء ويعرف بالقس من أهل المدينة: يا سلام هل تحيين من ماتا،
وإنما الشعر: سلام ويحك هل تحيين من ماتا"(54).
فبسقوط كلمة : " ويحك" يختل
الوزن، مما يخرج البيت (شطره ،أو عجزه) من الشعرية إلى النثرية. وعليه فإن الشعر
ليس هو الكلام الموزون فحسب وإنما هو " القول الموزون وزناً عن تعمد"
(55)، أو بمعنى ما ذهب إليه ابن رشيق ، بقوله- في مثل هذا السياق- : " فكم في
سقط الشعر من أمثالها، ونظائرها، لا يعبأ به مثلاً، ولا ينظر إليه. فإذا أخذه سلك
الوزن، وعقدة القافية، تألفت أشتاته، وازدوجت فرائده وبناته، واتخذه اللابس
جمالاً، والمدخر مالاً، فصار قرطة الآذان، وقلائد الأعناق، وأماني النفوس، وأكاليل
الرؤوس، يقلب في الألسن، ويخبأ في القلوب، مصوناً باللب، ممنوعاً من السرقة
والغصب" (56).
وابن رشيق بهذا يشير، تحديداً ، إلى العبارات
النثرية الجميلة.
وإذا كان ابن رشيق ، ومن قبله، السيرافي
يشيران إلى الوزن من حيث أهميته في العمل على المنح، والرفع من شعرية القصيدة فقط
على النحو الذي مر معنا، فإن ثمة من سيذهب أبعد من ذلك بكثير، برؤيته المغايرة إلى
الوزن كمعجز، كالجاحظ مثلاً، بقوله: " وقد نقلت كتب الهند، وترجمت حكم
اليونانية، وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسناً، وبعضها ما انتقص شيئاً، ولو
حولت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن مع أنهم لو حولوها لم يجدوا في
معانيها شيئاً لم تذكره العجم في كتبهم" (57). مما يفتح الباب للآخرين لإعادة
النظر في مسألة الوزن لا من حيث الشعر " مبني على أوزان مقدره، وحدود مقسمة،
وقواف يساق ما قبلها إليها" (58)، أو "لأن لذيذه يطرب الطبع لإيقاعه،
ويمازجه بصفائه" (59)، أو من حيث أن " للشعر الموزون إيقاع يطرب الفهم
لصوابه" (60)، أو ما شابه ذلك فحسب، وإنما من حيث الخصوصية بقصره كمعجز على
الثقافة بالخصوص كلها.
ومع ذلك فما زال ثمة من الموضوعية بمكان
أن نقول أنه " ليس كل كلام موزون شعراً بالضرورة، وليس كل نثر خالياً
بالضرورة من الشعر" (61)، في الوقت الذي يجب علينا، هنا، التأكيد على أهمية
الوزن كونه أعظم أركان الشعر، وأولاها به خصوصية- على حد ابن رشيق، لارتباطه
بالإيقاع، من جهة ارتباط هذا الأخير، بماهية الشعر، في كل الشعريات الإنسانية،
وكونه (أي الوزن) هو الأرضية التي على " أديمها تنغرس بقية المكونات
الإيقاعية، ومن تضافر الوزن مع بقية المكونات يتولد الإيقاع باعتباره لحظة واقعة
في تلك المكونات والوزن، مفارقاً لها في الآن نفسه" (62).
لكن، لماذا الشعر؟ سؤال يتجدد بقراءتنا
لكل جديد من الإبداع، بحيث لا يمكن لأي بحث أن يتجاهله، وإن على نحو مضمر، أو
ضمني. لذلك لابد لنا من ملامسته ، آخذين، في الاعتبار أهمية أن لا يحدث ذلك،على
وجه التكرار، مما لا تتحقق الفائدة المتوخاة، إزاء هذا التفريع.
3. فائدة الشعر
1.3. تحقيق نوع من المتعة
ينبغي علينا ، للإجابة على سؤال من نوع
: لماذا الشعر؟ تجنب ما يمكن أن يكون إجابة مناسبة، وصحيحة لسؤال آخر من نوع: ما
فائدة الشعر؟ لأن هذا الأخير له علاقة بالشعر من حيث الوظيفة التي يؤديها، لا من
حيث، مثلاً، أنه "ليس مجرد قول يقال كيفما اتفق، بل والقول الذي ينكشف من
خلاله كل شيء، أي كل ما نتلفظ به وما نصوغه في لغة التخاطب اليومي"ـ (63) حسب
هيدجر، أو من حيث هو " نفس المعرفة المتردد وروحها الشفافة، هو التعبير
العاطفي الذي يرتسم على محيا العلم كله"،(64) في ذهاب القائل على وجه المبالغة،
التي لا يقابلها في ذلك إلا رؤية شيللي، الذي رأى إليه- بعد إحقاقه الشعر حقه،
كشيء علوي-على أنه" مركز المعرفة ومحيطها في آن واحــد"(65)، وأنه
"الذي يستوعب كل علم وإليه ينبغي أن يرد كل علم. إنه في الوقت ذاته جذر كل
المناهج الفكرية الأخرى"،(66)وذلك بالمفهوم نفسه الذي كان سائداً عند
الجاهليين في الشعرية العربية القديمة. فقد كان كل شعر لديهم علماً، وكل شاعر
عالماً، لتميز الشعر في النفاذ إلى حقائق الأشياء. يستوي في ذلك الحكيم أو الكاهن،
الساحر والشاعر، أو من حيث ما يقدمه من فوائد تجاه اللغة، على نحو ما ذهب إليه
الشاعريون في كل الشعريات، ومنها العربية. يقول أبو هلال في كتاب الصناعتين في
هـذا السياق:" ومن أفضل فضائل الشعر أن ألفاظ اللغة إنما يؤخذ جزلها وفصيحها،
وفحلها وغريبها من الشعر" (67)، أو من حيث تأثيره الاجتماعي، إذ " ليس
يؤثر في الأعراض والأنساب تأثير الشعر، فكم من شريف وضع، وخامل دنيء رفع"
(68) في الهدم أو البناء، علاوة على أنه ،كما يقول أبو هلال، سجلاً ثقافياً، إذ
" لا نعرف أنساب العرب، وتواريخها وأيامها ووقائعها، إلا من جملة أشعارها،
فالشعر ديوان العرب، وخزانة حكمتها، ومستنبط آدابها، ومستودع علومها" (69)،
وما شابه ذلك في غير الشعرية العربية قديمها، والمعاصر على السواء . وعليه، فإن
ثمة ما يمكن أن يكون، بذهابنا إلى غير ما تقدم، مناسباً، للجواب على السؤال: لماذا
الشعر؟.
بالحديث، في ضوء ما كان قد ذهب إليه أبو
هلال العسكري، بتحقيق الشعر لنوع من المتعة، أثناء حديثه عن علاقة الشعر بالألحان
التي هي " أهنى اللذات إذا سمعها ذووا القرائح الصافية، والأنفس اللطيفة، لا
تتهيأ صنعتها إلا على كل منظوم من الشعر، فهو لها بمنزلة المادة القابلة لصورها
الشريفة" (70). وهو نفسه ما كان قد ذهب إليه لونجينوس التدمري ،بإقراره رأى
أرسطو طاليس من قبل في " أن الشعر يحقق نوعاً من المتعة الفذة، يتفرد
بها".(71) وربط قيمته من حيث الجودة والأصالة بمدى ـ كمقياس ـ ما يتركه لدى
القارئ، أو السامع من تأثير "فإذا حُرك أو اهتز، أو أثير إلى حد النشوة نتيجة
جلال العمل الأدبي وزحمه العاطفي،كان هذا العمل جيداً "(72).
وهو نفسه ما سنجده عند أبي هلال العسكري
وغيره. ففي موضع آخر يقول:"ولا يهتز ملك، ولا رئيس لشيء من الكلام كما يهتز
له، ويرتاح لسماعه"،(73) ويفسر ذلك بأن ثمة خصائص في الشعر الحقيقي تبعث في
القارئ تواً شعوراً بأنه انتقل إلى أجواء جديدة من الاختبار العاطفي حسب لونجينوس.(74)
أو ماكان قد عبر عنه أرسطوطالييس بـ "الإقناع"(75).
وبناء على ذلك،فإن الفائدة من قول
الشعر، أو قراءته تكمن – وعلى نحو آخر- في تحقيقه نوعاً من المتعة، التي لا يمكن
أن توجد، على وجه الخصوصية ،في أي فن آخر غير الشعر، بامتياز.
من أجل ذلك تميز شعر عن شعر، وارتقى
شاعر دون شاعر من وجهة نظر الذوق العام بالذات.
(1) – محمد كامل الخطيب، نظرية الشعر،
منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ط1، 1996، ص 97-98.
(2) – أدونيس، زمن الشعر، دار الفكر،
بيروت، لبنان، ط 3، 1983، ص 312..
(3) – عبد القاهر الجرجاني، أسرار
البلاغة، تحقيق: محمد الفاضلي، المكتبة العصرية، صيدا- بيروت، ط2، 1999،ص 9.
(4) – المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
(6) – أدونيس، زمن الشعر، (م.س)ص:312.
(5) – المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
(7) - محمد كامل الخطيب، نظرية الشعر،(م.س)، ص 837.
(8) – المرجع السابق، ص 608.
(9) - المرجع السابق، الصفحة ذاتها
(10) – عبد القاهر الجرجاني، أسرار
البلاغة، ص تحقيق محمد الفاضلي، المكتبة
العصرية، صيدا، بيروت، ط2، 1999، ص 253-254. (11) – عبد القاهر الجرجاني، دلائل
الإعجاز، تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة- دار المدني بجدة، ط3،
1992، ص 549.
(12) – المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
(13) – لسان الدين الخطيب، كتاب السحر
والشعر، ترجمه إلى الإسبانية كونتنيات فرير، مدريد، المعهد الثقافي العربي
الإسباني، ط (بدون)،1981، مخطوط بمكتبة كلية الآداب بالرباط، ص 9-10.
(14) – المرجع السابق، ص 10.
(15) – محمد كامل الخطيب، نظرية
الشعر،(م.س)، ص 561.
(16) – المظفر بن الفضل، نضرة الأغريض
في نصرة القريض، تحقيق نهى عارف حسن، دار صادر، بيروت، الطبعة 2، 1995، ص 10.
(17) – غاستون باشلار، جماليات المكان،
ترجمة: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط5، 2000، ص
24.
(18) – ابن سلام الجمحي، طبقات فحول
الشعراء، قراءة: محمود محمد شاكر، الجزء I
(السفر الأول)، مطبعة المدني بالقاهرة، دار المدني-جدة، طI، سنة (بدون)، ص 55.
(19) – ديفد ديتشس،مناهج النقد الأدبي
بين النظرية والتطبيق، تر: محمد يوسف، مراجعة: محسن عباس، دار صادر، بيروت، ط1،
1967،ص 264.
(20) – نفس المرجع السابق، ص 143.
(21) – أرشيبالد ماكليش، الشعر
والتجربة، تر: سلمى الجيوسي، مراجعة توفيق صائغ، دار اليقظة العربية للتأليف
والترجمة والنشر، بيروت- لبنان،ط1، 1963، ص 11.
(22) – المرجع السابق نفسه ، الصفحة
ذاتها.
(23) – المرجع السابق نفسه ، ص 11-12.
(24) –المرجع السابق نفسه ، ص 12.
(25) –المرجع السابق نفسه ، ص 16.
(26) – المرجع السابق نفسه ،(م.س)، ص
16.
(27) –المرجع السابق نفسه ، ص 18.
(28) – ت.س. اليوت، فائدة الشعر وفائدة
النقد، تر: يوسف نور عوض، دار القلم، بيروت، ط1، 1982، ص 29.
(29) –
المرجع السابق نفسه ، الصفحة ذاتها.
(30) –المرجع السابق نفسه ، الصفحة
ذاتها.
(31) – المرجع السابق نفسه ، الصفحة
ذاتها.
(32) – ديفد ديتشس، مناهج النقد الأدبي
بين النظرية والتطبيق،( م.س)، ص 143.
(33) – جون كوهن،بنية اللغة الشعرية،تر:
محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 1986، ص 25.
(34) – المرجع السابق نفسه ، ص 25.
(35) – نفسه، الصفحة ذاتها.
(36) – نفسه، الصفحة ذاتها.
(37) – نفسه، ص 15-16.
(38) – المرجع السابق نفسه ، الصفحة 11.
(39) – ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر
وآدابه، تحقيق محمد قرقزان، مطبعة الكاتب العربي بدمشق، الجزء I، ط2، 1994، ص 77.
(40) – ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة،
دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، طI، 1982، ص 286-287.
(41) – المظفر بن الفضل، نضرة الأغريض
في نصرة القريض، تحقيق نهى عارف حسن، ط2، 1995، دار صادر، بيروت- لبنان، ص 7.
(42) – علي بن محمد الجرجاني، كتاب
التعريفات،دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،طI، 1995م، ص
127.
(43) –
قدامة بن جعفر، نقد الشعر، تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب
العلمية، بيروت، ط(بدون)، سنة(بدون)ص17.
(44) – أنظر محمد كامل الخطيب، نظرية
الشعر (2- كتب مدرسة الديوان)، طI، 1996، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، طI، 1996م،ص16.
(45) – قدامة بن جعفر، نقد الشعر،(م.س)
، ص 17.
(46) – نفسه، ص 17.
(47) – نفسه، ص 17.
(48) – أنظر محمد كامل الخطيب، نظرية
الشعر،(م.س)، ص 611.
(49) – جدسون جيروم، الشاعر والشكل-
دليل الشاعر-، تر، جبري محمد حسن وعبد الرحمن القعود، دار المريخ للنشر، الرياض-
السعودية، طI، 1995م،ص
26.
50) – ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون،
المجلد I، ط2، ص 1104.
(51) – ابن سلام الجمحي، طبقات فحول
الشعراء، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر،
السفر الأول، مطبعة المدني، القاهرة، دار المدني بجدة، طI، سنة (بدون)، ص 9.
(52) – أدونيس، مقدمة للشعر العربي، دار
العودة، بيروت، لبنان، ط3، 1979، ص 112.
(53) – عبد القاهر الجرجاني، أسرار
البلاغة، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة- دار المدني
بـجدة، طI، 1991، ص 191.
(54) – السكاكي، مفتاح العلوم، ضبطه
وكتب هوامشه وعلق عليه نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط(بدون)، 1983، ص
517.
(55) – نفسه، ص 517.
(56) – ابن رشيق القيرواني، العمدة،
تحقيق محمد قرقزان، مطبعة الكاتب- دمشق، الجزء I، ط2، 1994،ص 73-74.
(57) – الجاحظ، كتاب الحيوان،
تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الكتاب
العربي، بيروت، ط3، 1969، الجزء I، ص 75.
(58) – المرزوقي ، شرح ديوان الحماسة،
نشره أحمد أمين وعبد السلام هارون، المجلد I،
القسم I، دار الجيل، بيروت، طI، 1991،
ص 18-19.
(59) – نفسه، ص 10.
(60) – ابن طباطبا، عيار الشعر، تحقيق
طه الحاجري ومحمد زغلول سلام، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، طI، 1986،
ص 11.
(61) –أدونيس، زمن الشعر، دار العودة،
بيروت- لبنان، ط3، 1983، ص16.
(62) – محمد لطف اليوسفي، دراسة بعنوان:
أسئلة الشعرو مغالطات الحداثة، مجلة نزوى، العدد الخامس- يناير 1996م، ص 72.
(63) – هيدجر، إنشاد المنادي، قراءة في
شعر هولدرلين وتراكل، تر: بسام حجر، المركز الثقافي، بيروت، طI، 1994
ص 64.
(64) – ديفد ديتشس، مناهج النقد، (م.س)،
ص 148.
(65) – أنظر نفسه، ص 194.
(66) – نفسه، ص 194. 67)
– أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل
ابراهيم، المكتبة العصرية- صيدا، بيروت، طI،
1986، ص 37.
(68) – نفسه، ص 37.
(69) – نفسه، ص 138.
(70) – أبو هلال العسكري، كتاب
الصناعتين،(م.س)، ص 138.
(71) – ديفد ديتشس، مناهج النقد،
(م.س)،ص 82.
(72) – نفسه، ص 82.
(73) – نفسه، ص 83
(74) -
نفسه، ص 83.
(75) ـ
أنظر نفسه، ص 82.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق